إيران والخطة ب

19.11.2019

لم تكن إيران بحاجة لتقديم إثبات لتأكيد الطابع السياسي المرتبط بأجندة خارجية للاحتجاجات التي تشهدها، رغم اعتراف المسؤولين الإيرانيين بوجود بُعد شعبي نسبي لبعض التحرّكات. والكلام الإيراني مختلف عن كلام حلفاء إيران في لبنان والعراق حول صدقية التحركات الشعبية واستنادها إلى أسباب حقيقية، والاكتفاء بوصف التدخّل الخارجي، والأميركي الخليجي خصوصاً، كمحاولة سطو على التحرّكات الشعبية وتجييرها لحساب مشروع سياسيّ يخدم المصالح الأميركية، بالاستناد إلى الدور الأميركي في تجفيف المقدّرات المالية عبر نظام العقوبات، وإلى الإمساك بعدد من جمعيات المجتمع المدني، وعدد من وسائل الإعلام.

بالنظر لطبيعة الموضوع الذي تفجّرت حوله الاحتجاجات في إيران، والناجم عن قرار حكومي برفع أسعار المحروقات، يكفي التساؤل عن التوقيت، الذي كان بمستطاع المسؤولين الإيرانيين التحكم به، خصوصاً في ظل مواجهة شاملة تبلغ ذروتها بين طهران وواشنطن، وهنا يشرح مسؤولون إيرانيون قراءتهم للقرار والوضع الناشئ عنه، بالقول إنها مواجهة تحت السيطرة، ويفسرون ذلك بالقول، إن القرار فتح الباب لتحرك جماعات معارضة تحرّكها واشنطن، أكثر مما أثار فئات شعبية واسعة تحت عنوان التضرّر من القرار، فيجب أن يعلم المتابعون أن سعر البنزين في إيران هو الأرخص في العالم، حيث سعر الصفيحة 20 ليتراً كان بأقل من دولارين 200 الف ريال ، وبعد الزيادة صار السعر للشريحة الأولى التي تستهلك أقل من 60 ليتراً شهرياً، ثلاثة دولارات فقط للصفيحة، بينما صار لمن يستهلك أكثر من هذه الكمية بستة دولارات، وهو أقل من نصف سعر الكلفة لصحيفة البنزين، والسعر الأعلى هو ثلث السعر المباع في الأسواق اللبنانية تقريباً.

الحسابات الاقتصاديّة الإيرانيّة تقول، إن استهلاك مئة مليون ليتر في إيران يومياً يرتّب قرابة خمسة عشر مليار دولار كدعم سنويّ للخزينة الإيرانية، وكان السعر المخفض ولا يزال بالقياس لكل أسواق العالم، نوعاً من أنواع التوزيع العادل للثروة الذي تعتمده القيادة الإيرانية في التعامل مع الثروة النفطية للبلد، وهو رقم كبير في الظروف الراهنة لتدفق العملات الأجنبيّة من جهة، ومواصلته بالطريقة ذاتها مخالفة لمعايير العدالة نفسها مع تراجع القدرة على تصدير النفط، حيث العدالة تقتضي إعادة توزيع الأعباء، لكن دون المساس بالفئات الأشدّ فقراً في المجتمع الإيراني، التي تشملها فئة ما دون استهلاك الـ60 ليتراً في الشهر، والتي لن تزيد كلفتها الإضافية عن 2 – 3 دولار شهرياً ، بعد الزيادة، وهؤلاء يشكّلون قرابة 60 من الإيرانيين، بينما الزيادة على الطبقة الوسطى التي تستهلك قرابة ضعف الشريحة الأولى ستكون كلفتها الإضافيّة بين 10 – 20 دولاراً شهرياً، وهو متناسب مع دخلها وقدرتها على التحكم بفاتورة استهلاكها، أما الطبقات الميسورة فلن تتأثر بالتأكيد وليست طرفاً في التضرر. والأهم أن الاستهلاك انخفض مع القرار بنسبة 20 وأن قرابة 20 أخرى كان يتمّ تهريبها خارج الحدود ستنخفض إلى أقلّ من النصف على الأقل، ما يعني أن إجمالي وفر الخزينة، يقارب ستة مليارات دولار سنوياً، سيتم تدويرها لمجالات أخرى تتصل بحاجات أشد أهمية للشعب الإيراني مع توافر وسائل نقل عام عملاقة ومنتشرة في كل المدن والمحافظات، يتقدّمها المترو في طهران.

في القراءة السياسية والأمنية، أن القرار وفّر لإيران فرصة غير مسبوقة لتقديم سبب يدفع واشنطن العاملة بكل جهدها لإضعاف القدرات المالية للدولة الإيرانية لاعتبار القرار الإيراني مصدراً لفرصة تحسين الوضع المالي للدولة يجب منعها، وبالتالي التسرّع في قراءة توافر فرصة انتفاضة شعبية عنوانها رفع سعر المحروقات الذي يشكل كعنوان مدخلاً دائماً للحديث عن الثورات، ليحتفل المسؤولون الأميركيون بما يصفونه بارتكاب القيادة الإيرانية حماقة قاتلة لا يجب تفويتها ، فيتمّ الزجّ المباشر وغير المباشر، بكل الذين تصل إليهم اليد الأميركية من جماعات معارضة ونشطاء وجمعيات وشبكات منظمة، ليخوضوا معركة فاصلة يظنّ الأميركيون أنها رابحة، ويراها الإيرانيون فرصة لقطع رأس التخريب بعزله عن الجسد الشعبي، الذي يثقون أنه لا يزال غائباً عن الاحتجاجات، فيما عدا بعض الذين جذبتهم التعبئة الإعلامية، أو مبدأ فكرة الاحتجاج، لكن بالتأكيد بقي الشعب الإيراني، الذي يفترض أن يحرّكه في أي بلد آخر قرار برفع أسعار البنزين إلى الشارع، خارج المسرح بسبب خصوصية تعامل الدولة الإيرانية مع هذه السوق، قبل الزيادة ومن خلالها، بصورة مدروسة لم ينتبه الأميركيون، إلى أنها مصيدة مناسبة لمعركة يخوضها الإيرانيون في أرض مكشوفة مع الجماعات التي أنفقت واشنطن مالاً ووقتاً لبنائها تذخيراً لمعركة يكون لها عمق شعبي، كحال لبنان والعراق. والمعركة من الزواية الإيرانية عملية استباقية مدروسة قاربت على النهاية بنجاح، ولن يتمكن الأميركي من دفعها للتصعيد، بل سيفتقد ما أعدّه وقام ببنائه، وقد تمّ كشفه واصطياده، بناء على معلومات مسبقة عن طبيعة الخطة الأميركية وانتظارها لمناسبة ذات طابع شعبي، فقام الإيرانيون، وهم يحققون خطوة اقتصادية مدروسة، بتقديم الإغراء للبعد الشعبي الافتراضي، وما يتمّ ميدانياً وفقاً للقراءة الإيرانية، مطابق للخطة التي تمّ كشفها وتتمّ متابعتها، ضمن رؤية لعزل الفئات الشعبية التي جذبتها الاحتجاجات، عن الجماعات المنظمة.

الخطة ب تطبَّق اليوم وستظهر نتائجها قريباً، يقول أحد المتابعين للمشهد الإيراني عن قرب، وقريباً ترون النتائج، ويضحك كثيراً مَن يضحك أخيراً.