تركيا ضحيّة الأميركيين.. وأردوغان
الفارق بين تركيا قبل عقد من الزمن وما هي عليه اليوم كبير جداً. كانت دولة قوية مرهوبة الجانب، ناجحة اقتصادياً تتمتع بعلاقات متوازنة مع جوارها الأوروبي والعربي، تظلّلها بتغطية أميركية رسمية وعلاقات عميقة بـ«إسرائيل» وموجزة على قياس المطلوب من إيران، إلى أن ابتليت بحزب العدالة والتنمية «الإخونجي» على الطريقة العثمانية.
أصبح وضعها خلال هذا العقد معكوساً تماماً.. علاقاتها بسورية والعراق احترابية وتدميرية، ولا تزال حتى اليوم تحاول الاستفادة من الاضطرابات المندلعة لانتزاع أجزاء منها بوسائل الفتنة المذهبية والعرقية، لكنها تفشل لأنّ أوان الحل الإقليمي لم يأتِ بعد.. وتتربّص شراً بالكرد، وتتوجّس منهم لأسباب استراتيجية وأخرى تتعلق بخوفها من تصدُّع كيانها السياسي، فتحاول القضاء عليهم لكنّ واشنطن تزجرها.
وتكاد الحرب تنشب مع جاريها اليوناني والقبرصي لولا حلف «الناتو» الذي ينظّم هذا الخلاف مؤمّناً استمراريته، إنما في إطار منع الحلّ السياسي. وهكذا تواصل أنقرة احتلال نصف جزيرة قبرص منذ نصف قرن تقريباً برعاية الحلف الأطلسي.
لكنّ الأسوأ بالنسبة للأتراك، خسارة علاقاتهم بأوروبا التي أقفلت نهائياً أبواب اتحادها الأوروبي في وجههم، وهكذا أفل نجم الخيار الأوروبي وسقط مشروع قيادتها العالم الإسلامي في إطار «الإخوان المسلمين» وبعض المنظمات التكفيرية الأخرى على وقع تدهور علاقاتها بالأميركيين الذين يوفّرون لها مظلّة الحماية منذ أربعينات القرن الماضي. لذلك يضرب أردوغان في كلّ اتجاه فلا يجد إلا أبواباً موصدة في وجه مشاريع بلاده وعظمته، وأخيراً عثر على ثغرة في الخليج حيث استقبلته دولة قطر المنزعجة من الهيمنة السعودية، فتعاقد البلدان في إطار مشروع «الإخوان»، حتى أدرك التنسيق بينهما حدود إنشاء قاعدة عسكرية تركية في الدوحة، على أساسين: قيادة إسلامية لتركيا، وحماية قطر من «التشبيح» السعودي، ما أدّى إلى غضب سعودي لا ينفكّ يتصاعد واضعاً أردوغان في الزاوية إمّا أن يختار قطر فيخسر الخليج ومكرُماته الاقتصادية، وإمّا أن يختار السعودية، فتبقى المكرُمات لكنّه يفقد مشروعه السياسي بالزعامة الإسلامية.. قانعاً بدور خلف الرياض!
فما الذي أوصل أنقرة إلى هذه الوضعية المتراجعة؟ هل هي السياسات الأميركية التي تعتبر الطموح التركي مسيئاً لمشروعها الكبير التفتيتي «حالياً»؟ أم سياسات رئيسها أردوغان الذي يمثّل دور سلطان في عصر انقضى فيه زمن السلاطين؟
تتحمّل السياسات الأميركية المتغيّرة على مستوى الأسلوب في الشرق الأوسط جزءاً من تدهور مكانة تركيا، ويساندها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكثر من نصف المسؤولية.
لقد وقع أردوغان في خطأ الاعتقاد بأنّ بلاده هي من اللوازم الثابتة للمشروع الأميركي في العالم الإسلامي، ولم يعرف إلا متأخراً أنّ اعتمادها عليه في سبيل اختراق المشرق العربي انكسر مع هزيمة «الإخوان» في مصر، فتحوّلت واشنطن عنه إلى تبنّي الكرد كوسيلة لاختراق أربعة بلدان متجاورة هي إيران والعراق وسورية.. وتركيا، مع لجوئها إلى الأوراق الأردنية و«الإسرائيلية»، على أن تتولى السعودية التعامل مع منظمات إرهابية جديدة تطلق عليها تسميات حديثة بلبوس مدني لـ«النصرة» ومتفرّعاتها، وجاءت النتائج مخيّبة للآمال، فمن سلطان مرفوع الرأس متثاقل الحركة بكبرياء مصطنع، إلى «وزواز» يتماهى مع سياسات روسية لطالما كان معادياً لها ومنسقاً مع إيران التي كان يتعامل معها بسطحية. لكنه احتفظ لبلاده بـ«حقّ» المشاركة في الحلول، من خلال احتلاله لنحو ثلاثة آلاف كيلو متر مربع من شمال سورية، وسيطرته على أجزاء من أراضي العراق، وهي طريقة ارتأى العثماني أردوغان أنّها تمنحه دوراً في الحلول النهائية، وتعامت واشنطن عن هاتين الحركتين للمحافظة على الحدّ الأدنى من علاقاتها بأنقرة.
أما النتيجة، فجاءت على شكل تدمير كامل للعلاقات بين كلّ من سورية والعراق مع جارتيهما تركيا التي أسهمت بتدميرهما من خلال دعم المنظمات الإرهابية.. ولا تزال. وفقدت تركيا التي تمتلك مليون جندي ووضعاً اقتصادياً متقدّماً، مجمل علاقاتها بالدول الأوروبية الكبرى، فلا تزال تتبادل يومياً الهجمات الإعلامية مع ألمانيا وفرنسا، حتى وصل جنونها إلى اتهام هولندا بالدكتاتورية، وبلجيكا بالعنصرية، وإيطاليا بالفاشية.. ترى هل كانت مرحلة السلطنة العثمانية أكثر ديمقراطية وإنسانية من تلك المراحل التاريخية؟
إلا أنّ الأسباب التي قلّصت الدور التركي إلى الحدود الدنيا بدأت مع استعمال أميركا للكرد في أدوار عسكرية كبيرة من شرق سورية وشمالها وصولاً إلى أنحائها الجنوبية، وذلك بعدما زوّدتهم بالسلاح والعتاد والدعم اللوجستي والمالي، وتركت أنقرة تتوهّم أنها تُمسك بكردستان العراق التي تتعامل معها نفطياً واقتصادياً. لكنّ هذا الانتشار الكردي أثار الأتراك لأنّهم يعرفون أنّ هذا الدور الكردي مرشّح للتوسّع كبقعة الزيت في مناطق الغالبية الكردية في تركيا حيث يوجد 15 مليون كردي يمسكون بأكثر من 15 في المئة من مساحة تركيا، إلى جانب عشرين مليون علوي تركي، بينهم خمسة ملايين من أصول كردية أيضاً.
حاولت أنقرة ضرب الدور الكردي بمزاعم متعدّدة، منها اتهامه بالإرهاب، لكنّ الموقف الأميركي كان «زاجراً» بعنوان عريض «لا تهاجموا الكرد»، لذلك اكتفت أنقرة باحتلال أراضٍ سوريّة تمنع الاتصال بين شرق سورية الكردي وبعض أنحاء غربها الكردي أيضاً، لكنها لم تتمكن من فعل أي شيء إزاء هذا التمدُّد الكردي برعاية أميركية من الشرق إلى الوسط والجنوب برعاية أميركية، لذلك ذهبت تركيا إلى قطر في محاولة لزرع لغم في قلب الجيوبوليتيك الأميركي، حيث حاولت استثمار سوء العلاقة بين الدوحة والرياض، ووصل بها الأمر إلى حدود إنشاء قاعدة عسكرية في قطر، مع محاولة تنشيط دورها مع الإخوان المسلمين في اليمن وليبيا ومصر ولبنان ومُجمَل الخليج.
إنّ التنسيق بين تركيا وقطر يحمل أكثر من تفسير، وأوّله انتزاع الدور القيادي من السعودية المدعومة من مصر، والعودة إلى الساحتين السورية والعراقية من خلال دعم إرهاب له تسمِيات جديدة، مع التفتيش عن مكان لسياساتهما في الخليج والعالم الإسلامي.
وهنا أخطأ أردوغان مرة جديدة، فـ»أميركا ترامب» اختارت الرياض وعزلته، ووقفت إلى جانب مصر في وجه «الإخوان»، وقبضت من قطر وحمتها إنما بحدود غير كافية، تجعل سياساتها القائمة على الابتزاز متواصلة بأفلام هوليودية جديدة، وإذا خسرت قطر أدوارها السياسية، فهذا ليس وبالاً عليها، لكنّ خسارة تركيا لأدوارها إنّما هي خسارة لدولة بنَت أوضاعها المتقدمة بشكل تاريخي بنيوي غير ريعي، ولها حجم يؤهّلها أن تؤدّي أدواراً أساسية في الشرق الأوسط.
هناك إذاً عداء تركي عميق مع كلّ من الاتحاد الأوروبي وسورية والعراق ومصر والسعودية، ومعظم دول مجلس التعاون، مع تقلّص مضطرد في الرعاية الأميركية لأنقرة.
في المقابل، تحسّنت العلاقة التركية مع روسيا، إنّما بالحدود التي لا تجعل واشنطن تحوّل استياءها من أردوغان شخصياً إلى مشروع تأديب لدولة تركيا، كما تقدّمت علاقاتها مع إيران إنما من غير تنسيق فعلي، لأنّ البلدين متصارعان تاريخياً على زعامة المنطقة وينتميان إلى محاور متناقضة.
أمّا لجهة اليونان وقبرص، فهما يتحيّنان الفرص لوضع حدّ للغطرسة التركية تجاههما وطردها من نصف جزيرة قبرص التي تحتلها، لذلك تشعر اليونان بتعاطف مع العداء السعودي لتركيا، بدليل أنّ وزير خارجيتها قال في تصريح إنّ هناك دولة أخرى غير قطر لن تنجو من العقاب الخليجي، وكان يقصد تركيا بالطبع، لأنّه عرف من الرياض أنّ هناك إصراراً خليجياً على إقفال القاعدة التركية في الدوحة.
من هنا، فإنّ العداء السعودي المصري لتركيا هو الأكثر فاعلية في هذه المرحلة، لأنّه يقضي على احتمالات تقدم الدور التركي في الخليج وبلاد الشام والعراق، ودفعه إلى الزاوية الضيّقة في العالم الإسلامي.
ولا بدّ من التأكيد في النهاية أنّ سياسات أردوغان المتهالكة في سورية والعراق ودعم الإرهاب الإخواني في مصر وشمال أفريقيا والسودان، والتسلّل إلى الخليج، مع تبديل الأساليب في السياسات الأميركية من دعم الإخوان إلى إسناد التوجّه الإرهابي السعودي، هي الأسباب التي تحاصر تركيا ضمن حدودها، مع احتمالات انفجار كيانها السياسي بموازاة تقدّم الدور الكردي الذي يؤدّي حالياً دور «الهراوة الأميركية» التي تريد تفجير أربع دول تتربّع تركيا على رأس قائمتها، وهذا احتمال كبير.