أطماع تركيا التوسعية والقفز فوق الجغرافية السياسية
في كتابه “الحساسية الجيوبوليتيكية Jeopolitik Duyarlılık كتب الباحث سوات الهان: “تركيا هي الدولة المحور الواقعة على أكبر قطعة أرضية في العالم والمتكونة من أوروبا، اسيا وإفريقيا أو جزيرة العالم بالمعنى الجيوبوليتيكي. تركيا هي المفتاح والقفل لهذا المحور، فلطالما لعبت جغرافية تركيا وبشكل فعّال دورها كمفتاح وقفل، لأنه ولفترة طويلة كانت فقط جزيرة العالم القطعة الأرضية الوحيدة على الكوكب، وجميع الحضارات والأديان الأساسية المشهورة تطورت حول نقطة تقاطع هذه القارات الثلاث بسبب موقعها الجغرافي”.
في الواقع، لا يُمكن الحديث عن دور جيوبوليتيكي لـ تركيا في الشرق الأوسط، دون التعمق في الأفكار التي طرحها أحد أهم منظري حزب العدلة والتنمية سابقاً ورئيس الوزراء التركي السابق احمد داود اوغلو في كتابه “العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية”، إذ تطرق أوغلو في كتابه عن المكانة المؤثرة لـ تركيا في الساحتين الإقليمية والدولية، فضلاً عن ضرورة أن تقوم الدولة التركية بتوظيف موروثها التاريخي ولجغرافيي في سياستها الخريجة، للوصول إلى المكانة الإقليمية والدولية التي ستُمكن تركيا رويداً رويداً من الاستحواذ على كل مفاصل الشرق الأوسط.
أوغلو الذي حلل في كتابه العمق الاستراتيجي، الضرورات التاريخية وعناصر الاستراتيجيات البرية والبحرية بالنسبة لتركيا فيما يتعلق بالمناطق البرية القريبة، كـ البلقان والشرق الأوسط والقوقاز، والأحواض البحرية القريبة كـ البحر الأسود، وشرق المتوسط، والخليج، وبحر قزوين، والمناطق القارّية القريبة: أوروبا، وشمال أفريقيا، وجنوب آسيا، ووسط وشرق آسيا.
ضمن ما سبق، يُلاحظ بأن تركيا قد استغلت التحولات المفصلية التي حدثت في العالم العربي، مع بداية ما سُمي “ثورات الربيع العربي”، لتقود تركيا هذه الثورات بصورة مبطنة، وذلك عبر دعم الإخوان المسلمين في سوريا ومصر وليبيا، خاصة أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، يتخذ من الأيديولوجية منطلقاً لتوجهاته في المنطقة، معتمداً على جُزئيتي الاسلام السياسي والاخوان المسلمين، كل ذلك بعب دوراً حاسماً في دعم تركيا لقوى الإسلام السياسي، في لحظة فارقة من تاريخ المنطقة والنظام الدولي، حيث سعت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إلى الانفكاك التدريجي عن الشرق الأوسط، وهو ما أوحى بالحاجة إلى ملء هذا الفراغ.
جراء التصدع الواضح في بنية النظام الإقليمي، وجدت تركيا ضالتها في تبني سياسة التوسع والقفز فوق الجغرافية، ولم تُعر اهتماماً للاتفاقيات الدولية القائمة بين الدول، واتجهت مباشرة نحو خرقٍ كاملٍ للمبادئ الدولية، مستغلةً المناخ السياسي العام في الشرق الأوسط، جراء جُملة من السياسات الأمريكية التي أسفرت في خواتيهما، إلى إحداث شرخ بين الدول، وغياب واضح لدور أممي ناظم لتلك التحولات الأساسية والجوهرية في المنطقة.
من سوريا إلى العراق وصولاً إلى ليبيا، يبدو أن نمط التدخلات التركية في تلك البلدان، ينطلق من أبجديات العثمانية الجديدة، إذ لا يمكن فهم السياسة التركية في هذا الإطار، دون النظر إلى اتفاقية لوزان والتي تنتهي مفاعيلها في عام 2023، وبالتالي من الواضح أن تركيا ” حزب العدالة والتنمية” قد استثمرت بهدوء وتأنٍ، الوصول إلى مفاصل الحكم في تركيا، والسيطرة بالكامل على المؤسسات العسكرية والأمنية، بُغية توظيفهم في السياسات الخارجية، لكن المنعطف الذي سمح لـ تركيا أردوغان بالدخول إلى العالم العربي من البوابة العثمانية، كانت أحداث الربيع العربي، فتمكنت تركيا ومعها قطر من التواصل مع شبكات الإخوان المسلمين في عدد من العواصم العربية، التي شهدت انتفاضات ضد أنظمتها، حيث ربط الحلف القطري- التركي مع جماعات الإخوان في داخل تلك البلدان، وسُمح للمحور الإخواني باستيعاب “الثائرين” في سوريا، وكذا في ليبيا الذي يحاول أردوغان السيطرة عليها لتكون نقطة انطلاق نحو مصر، إذ يسعى أردوغان لإنشاء شبكة إخوانية وربطها بتنظيمات جهادية، هدفها الأول والأخير السيطرة على الجغرافية والعبث سياسياً وعسكرياً بها، في أطر إيديولوجية.
في العراق، دخل النفوذ التركي الجديد إلى عمق العراق “السني” الذي كان يعاني أصلاً من أوضاع اقتصادية واجتماعية سيئة، جراء الغزو الأمريكي للعراق، أما في لبنان فلعبت الحكومة التركية بذكاء شديد على وتر الناشطين السنة الإسلاميين بين طرابلس والضنية وعكار، وذلك عبر مؤسسات اقتصادية وتنموية وثقافية بقيادة الجماعة الإسلامية، وربطت أنقرة أيضاً بشكل غير حاد مع الشبكة الإخوانية القديمة داخل الأردن، وعبرها إلى غزة حيث استفادت التنظيمات الإسلاموية الموالية لأنقرة من وصول سفن المساعدات إلى حركة “حماس” لتلتقط جزءاً من الورقة الفلسطينية.
في المقلب الأخر، من الواضح أن تركيا تسعي لمد ذراعها العثمانية إلى أرمينيا وأذربيجان، فقد ورطت تركيا نفسها في نزاع جديد من خلال الموقف الداعم لأذربيجان في ما يتعلق بالاشتباكات التي حدثت على الحدود بين أرمينيا وأذربيجان، حيث قالت أنقرة إن أرمينيا تعتمد نهجاً عدائياً، وهي بذلك توظف الخلاف التاريخي بشأن الاعتراف بإبادة الأرمن في إبداء موقفها من حادثة لا تمت لهذه القضية بأي صلة.
لا ريب في أن سعي تركيا الى الدور والمكانة الإقليميين كان ولا يزال، مطمحاً ثابتاً، ولكنه كان يطفو أو ينغمر بحسب ظروف الحرب الباردة وعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن الوضع الإقليمي، وحينما تغيرت الظروف انفتحت أمام تركيا أبواب جديدة لصوغ توجه إقليمي يبرزها قوة رئيسة في مناطق نفوذها وعنصراً مؤثراً في منطقة الشرق الأوسط وما حولها، ولأن تركيا لا تستطيع أن تخوض في تنفيذ مشروعها العثماني، لأسباب عديدة من أهمها إن هذه المنطقة تخضع بشكل كبير لمشاريع وحدات دولية كبرى كالولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوربي وروسيا والهند والصين ومتنفذة كإسرائيل، لذا لجأت تركيا الى أسلوب الشراكات والتحالفات مع قوى أخرى لتحقيق مصالحها العليا، كما اعتمدت على تنظيمات جهادية كذراع عسكرية لـ تركيا للتوغل في عمق المنطقة سياسياً وعسكرياً.