تكليف أم قرار ذاتي؟... النفوذ التركي في أفريقيا يثير القلق الجيوسياسي الدولي
منذ وصول رجب طيب أردوغان إلى السلطة في تركيا عام 2002، تغيرت نظرة الدولة التركية نحو القارة الإفريقية، وازداد إهتمامها بالتواجد في ساحاتها السمراء المزدحمة بالدول الأوروبية، وبالتواجد الأمريكي والإسرائيلي، وأقحمت نفسها في كل الأزمات والمشاكل الدولية إنطلاقا ًمن حدودها وباتجاهات مختلفة سواء كانت برية أو بحرية، ووصلت عبر خط سيرها البحري المتوسطي إلى ليبيا وإلى عديد الدول الأفريقية الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، في تركيزٍ واضح لوصولها إلى وسط وقلب القارة الأفريقية.
سلوكٌ غريب لدولةٍ تعاني من مشاكل سياسية وإقتصادية ومالية داخلية، ومشاكل عنيفة تضرب عمق بيت الحزب الحاكم "العدالة والتنمية"، ناهيك عن المشاكل والأزمات الخارجية وتوتر العلاقات التركية مع عددٍ لا يستهان به من الدول في المنطقة والعالم، ويأتي التدخل التركي السافر في الشؤون الداخلية لغالبية الدول المحيطة والقريبة والبعيدة عن حدودها، إما بالتدخل العسكري المباشر أو بدعم التنظيمات الإرهابية، أو حتى ببيع الكلام المعادي للصهيونية ودعم القضية الفلسطينية، ورفع لواء الإسلام, تحت عباءة العثمنة وإستعادة "أمجاد" الأجداد ... أيُّ أدوار مغامراتٍ خطيرة تقوم بها الدولة التركية القوية – الضعيفة، التي لم تصمد عملتها وإقتصادها لساعات أمام تغريدة واحدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب..!
لا يمكن لعاقل تصور أنها تفعل ما تفعل من تلقائها، وبالإعتماد على قدراتها وأنها تسير وفق أجنداتها ورؤاها، ولا يمكن القبول بفكرة نجاح سياستها الخارجية أو ترسانتها العسكرية أو أطلسيتها، في ليّ أذرع بعض الدول، ووقوفها في وجه البعض الاّخر، وسلوكها الأرعن وعنجهية أردوغانها...ويبقى السؤال عن جحم تكليفها الأمريكي والصهيوني، ومدى تأثير أرجحتها بين كافة الأطراف الدولية الكبرى والفاعلة.
إن تركيز السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية على إفريقيا بدا واضحا ًمع تزايد تمثيلها السياسي والدبلوماسي وتضاعفه ثلاث مرات عمّا كان عليه عام 2009, وباتت تملك أكثر من أربعين قنصلية وسفارة, ولا زالت شهيتها مفتوحة للمزيد, ولازال ساستها يرددون بأن تركيا "شريكٌ استراتيجي للإتحاد الأفريقي", وكانوا ينوون عقد قمة تركية - أفريقية في اسطنبول بمشاركة أكثر من ستين دولة أفريقية, لكن إنتشار جائحة الكورونا دفعت بإتجاه تأجيلها.
إن زيادة عدد البعثات الدبلوماسية والزيارات الرسمية للمسؤولين الأتراك وللرئيس أردوغان تخطى الثلاثون دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية، بما يؤكد سعيها إلى مدّ وتوسيع نفوذها السياسي في القارة الأفريقية، بالتوازي مع سعيها للحصول على دعم الدول الأفريقية في الأمم المتحدة، وسط مطالباتٍ متكررة للرئيس بأن تكون الدول الأفريقية ضمن "مجموعة العشرين السياسية " - التي ينادي بها أردوغان - ، في ظل عدم وجودها بين الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن.
ولا يغيب البعد الإقتصادي عن جوهر الإهتمام التركي بالقارة السمراء، إذ تتجه التطلعات التركية نحو زيادة نفوذها الإقتصادي وحجم التبادل التجاري مع الدول الأفريقية، نظرا ً لإنخفاض متوسط الرواتب والأجور، بما يرفع منسوب جاذبية الشركات التركية لنقل مصانعها إلى هناك خاصة ً تلك السلع التي لا يتطلب إنتاجها مهارة ًعالية .. وقد تم رصد إرتفاعا ً لمنسوب التبادل التجاري ( مجموع التبادل الثنائي مع عدة دول أفريقية ) ليتجاوز الـ /30/ مليار دولار، وتجاوزت الصادرات التركية عتبة الـ /17/ مليار دولار، والتي تشمل سلع الصناعات المعدنية والسيارات والمعدات الميكانيكية والكهربائية والطبية وقطع الغيار والمنتجات الكيماوية والغذائية، النسيج والملابس والتبغ والورق ، مقابل حصولها على المنتجات الزراعية والغذائية والمنسوجات والجلود والمعادن والمواد الخام من القارة السمراء.
كما دخلت الدولة التركية على خط الإستثمار في اقتصاديات الدول الأفريقية، ونفذت وكالة التعاون والتنسيق التركية ما يقارب /2000/ مشروع ونشاط في /150/ دولة أفريقية خلال العام الماضي، وافتتحت جمعية للصناعيين ولرجال الأعمال في السودان، بالإضافة إلى ربط شركة الخطوط الجوية التركية ووصولها إلى أكثر من خمسين مدينة في الدول الأفريقية.
ويبقى من المهم الإشارة إلى إهتمام حزب العدالة والتنمية ببناء نفوذٍ ديني وبنشر إيديولوجيته القومية الإسلامية "العثمانية الجديدة"، إذ لا يغيب عن أذهانهم أنه من أسباب أفول وهزيمة الإمبراطورية العثمانية ضعف نفوذها في أفريقيا.
وفي المجال العسكري .. لم تخف تركيا إهتمامها بتعزيز وجودها في أفريقيا، حيث أنشأت أولى قواعدها العسكرية في الصومال، وارسلت بعضا ًمن جنودها وعمدت إلى تدريب أكثر من عشرة اّلاف جندي صومالي، ودخلت على خط المزاحمة والتواجد العسكري للولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا واليابان ... دون أن ننسى قاعدتها العسكرية الثانية في قطر إلى جانب القاعدة البريطانية في البحرين والفرنسية في الإمارات، ناهيك عن تواجدها العسكري الكبير في ليبيا بما يعكر المزاج الجيو- سياسي للعديد من دول المنطقة والعالم الغربي أيضا ً.
إن مجمل السلوك التركي أثار قلق السعودية والإمارات ومصر, خصوصا ًالقاعدة العسكرية في جزيرة سوان السودانية التي تمنحه نفوذا ًتركيا ًفي البحر الأحمر وطريق التجارة البحرية وقناة السويس، ناهيك قواعده الدائمة المحتملة بقوة في ليبيا، ومسرحيات التنقيب في المتوسط والتي تكاد تشعل حربا ًعالمية، ويبدو أنه من حسن حظ أردوغان أنه وجد طريقة ً للتراجع والإنكفاء تحت ذريعة "البشارة" وإكتشاف /320/ م مكعب من الغاز في البحر الأسود، وكلامه بما يشبه إعلان التوبة "سنواصل السير نحو أهدافنا دون أن نطمع في حقوق الآخرين"، في حين أن حقيقة تراجعه قد تكون تحت الضغط الأوروبي - الفرنسي والتهديد المصري، ودعوات التهدئة الدولية، وكي يحافظ على مكاسب وصوله إلى ليبيا.