أسياد البشرية وثمن العنف
إنّ عقولنا في محاولتها للإجابة على هذا السؤال، تقع أسيرةً لتصوّر مُسبقٍ يقضي بأن اللاعبين الأساسيين على الساحة الدولية هم بطبيعة الحال الدول الكُرى، وأنّ أكبر العوامل المؤثرة في المشهد السياسي هي قرارات تلك الدول، وعلاقاتها.
على الرغم من أنّ هذا ليس تصورًا خاطئًا بالكلية، إلا أنّه يحمل في طيّاته اختصارًا مخلًا ومضللًا للمشهد، لأنّه يُهمل التأثير الساحق لـ"أسياد البشرية"، كما وصفهم آدم سميث، الفيلسوف ومؤلف كتاب "ثروة الأمم". ربّما يختلف المشهد الحالي قليلًا عما كان عليه في حياة سميث، لكن ما أشبه تُجّار إنجلترا في زمانه، بالشركات العملاقة متعددة الجنسية، والمؤسسات المالية الضخمة، في زماننا؛ حيثُ ما زال المبدأ واحدًا: "كل شيءٍ لنا، ولا شيء للآخرين".
تتمتّع هذه المؤسسات بنفوذٍ هائل، سواءً في موطنها الأم، الذي ترتكز عليه فيما يتعلّق بحماية قوّتها وتوفير الدعم الاقتصادي لها، أو على المستوى الدولي. كمِثالٍ على ذلك، اتفاقية الشراكة العابرة للأطلنطي؛ واحدة من تلك الاتفاقيات التي سُمّيت زورًا باتفاقيات التجارة الحرّة، في حين أنها تُناقَش في الغُرف المغلقة، ويكتب تفاصيلها الدقيقة مئات من مُحامي الشركات الكُبرى، بهدف تمريرها سريعًا بلا مناقشة حقيقية، أو مشاركة من الشعب، الذي عادةً ما يتم تهميشه.
العدوان على سلطة الشعوب
هذا التهميش المتأصل في السياسات النيوليبرالية، ركّز السُلطة في حفنة من الأيدي متجاهلة الديمقراطية الفاعلة. لكن الشعب غالبًا ما يرفض دور المشاهد، الذي تفرضه عليه السياسة الديمقراطية الليبرالية. تخسر الأحزاب الرئيسية في أوروبا مزيدًا من الأعضاء كل يوم لحساب حركات أكثر يمينية أو يسارية، فيما يراه المدير التنفيذي لمجموعة "أوروبا نوفا" EuropaNova البحثية "حالة من الغضب العاجز، نتيجةً لتركّز القوة الحقيقية في يدِ السوق، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، والشركات الكبرى، بدلًا من القادة السياسيين الوطنيين". يترنّح الاتحاد الأوروبي بسبب سياسات التقشّف التي تلقى احتجاجاتٍ وانتقادات واسعة حتى من اقتصاديي صندوق النقد الدولي.
أمّا الدول التي تختار الرضوخ للرأي العام المحلي، فينصب عليها كثير من الغضب. لعل المثال الأبرز هو رفض الحكومة التركية طلب إدارة بوش بمشاركة تركيا في غزو العراق، استجابةً لرفض 95% من الأتراك للانضمام للتحالف الأمريكي البريطاني، ليثير ذلك غضب الحكومة الأمريكية بشدّة، ويوبّخ نائب وزير الدفاع آنذاك بول وولفويتز الجيش التركي على "سماحه" للحكومة التركية بمثل هذا الفعل الشائن، مطالبًا بالاعتذار. لكن الشعب التركي لم يكن وحده في معارضة العدوان، بل اندلعت احتجاجات ومظاهرات عالمية، وداخل الولايات المتحدة نفسها. ونادرًا ما تخطت نسبة الموافقة على خطة واشنطن 10% في أي من استطلاعات الرأي في العالم كله. لكن النظام الأمريكي مضى في طريقه متجاهلًا الانتقادات المتعالية لسعيه تجاه "نشر الديمقراطية"، وظنّه أن قوّة خارجية يمكنها فعل ذلك.
على الرغم من ذلك، لا يمكن الإتفاق مع القائلين بأن الرفض الشعبي واسع النطاق لم يكن له تأثير على الإطلاق، ويتتبّع تاريخ رفض الرأي العام للحروب الأمريكية، بدءًا من حرب فييتنام، التي نجحت فيها الحركة المناهضة للحرب في هدفها لولا أن ذلك حدث في وقتٍ متأخر للغاية، ومرورًا بعدوان رونالد ريغان البشع على أمريكا الوسطى، والذي اضطر إلى التراجع عنه نظرًا للاحتجاج الشعبي الواسع، وانتهاءً بحرب العراق، وعواقبها شديدة البشاعة، التي ربّما كانت لتصبح أسوأ بكثير.
لطالما أثار ذلك الرفض الشعبي قلق الطبقات المتسيّدة. في كتابه، "السياسة العنيفة"، يرى ويليام بولك أنّ الجنرال جورج واشنطن كان شديد الحرص على تهميش العامّة من أفراد الميليشيات الذين قاتلوا تحت إمرته، حتى كاد ذلك أن يكلّفه ثورته، لولا التدخّل الفرنسي. هذه المليشيات كانت تُحرز الانتصارات الأكبر في الثورة، على العكس من الجيش النظامي الذي تلقّى الهزيمة تلو الأخرى. على الرغم من ذلك، كان واشنطن يراهم "أناسًا كريهين، شديدي القذارة"، ويؤمن بتأصل الغباء في الطبقات الدُنيا، وربّما سمّاهم اليوم "إرهابيين".
يُسجّل بولك سمة تُميز الثورات الناجحة، وهي تهميش هؤلاء "الكريهين، شديدي القذارة"، الذين تسببوا في نجاح الثورة، بمجرد أن تنتهي الثورة وينفض عنهم الدعم الشعبي، خشية من تحدّيهم للطبقات العُليا. هذا الازدراء النخبوي عبّر عن نفسه بعدّة صور على مرّ السنين، أحدها كان في دعوة الليبراليين إلى "الاعتدال في الديمقراطية"، إثر انتشار الحركات الشعبية في الستينيات.
السيطرة الغربية في مواجهة القوى الأخرى
جدعون راتشمان، الكاتب بجريدة "لندن فاينانشيال تايمز"، يستعرض التصور الغربي للنظام العالمي في سعيه لبسط نفوذه على مزيدٍ من بقاع الأرض، حيث القوة العسكرية الغاشمة للولايات المتّحدة هي الحقيقة المركزية في هيكل السياسة الدولية. ولهذا أهميته البالغة في 3 مناطق: شرق آسيا، حيث تمرح البحرية الأمريكية في المحيط الهادئ؛ وأوروبا حيث قوات الناتو، التي تتحمّل الولايات المتّحدة ثلاثة أرباع إنفاقها العسكري؛ والشرق الأوسط، حيث القواعد العسكرية الجوية والبحرية.
الآن، في 2016، تقف قوىً دولية أخرى في مواجهة الولايات المتّحدة في كل منطقة من هذه المناطق، مهددة النظام العالمي كما تخيله الغرب، حيث تنازع الصين الولايات المتّحدة على المحيط الهادئ، وتحارب روسيا الغرب في أوكرانيا، وسوريا. يرى راتشمان أن الولايات المتّحدة، لأسباب تتعلّق بتوزيع القوة الاقتصادية في أنحاء العالم، وبشيءٍ من المنطق البسيط، عليها الرضوخ لحقيقة أنّ هناك قوىً أخرى يجب أن تحظى بنطاقٍ من النفوذ الخاص بها.
العالم الإسلامي: كيف "قضى" التدّخل الأمريكي على الإرهاب
بدأت "الحرب العالمية على الإرهاب"، في الواقع، قبل إعلان الرئيس جورج بوش في 2001، عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية. أنّ إدارة ريغان هي التي بدأت فعليًا الحرب على الإرهاب، لتطهير العالم من "وباءٍ ينشره أعداء الحضارة نفسها، كما صرّح. تحولّت تلك الحرب إلى حربٍ مدمّرة دموية على وسط أمريكا، وغرب إفريقيا، والشرق الأوسط، استمرت تداعياتها إلى يومنا هذا.
وفي العام 2001، حين بدأت الولايات المتّحدة قصف أفغانستان في أكتوبر/تشرين الثاني، لرفض الأفغان تسليم أسامة بن لادن والمشتبه في تخطيطه لهجمات 11 سبتمبر. لم يفهم الأمريكان رفض هؤلاء الفلاحين الفقراء للجائزة التي عرضتها لحكومة الأمريكية: 25 مليون دولار، لكن الأمر كان متعلّقًا بقانون حسن الضيافة عند القبائل الأفغانية، على الرغم من كراهيتهم لجماعة بن لادن.
لكن هل كان التدخّل العسكري ضروريًا؟ يورد برأي القائد الأفغاني المُعارض لطالبان، عبد الحق، إن الهجوم الأمريكي أضاع مجهوداتهم لإسقاط طالبان من الداخل الأفغاني. اختارت الولايات المتّحدة العنف واسع النطاق، بدلًا من العمل الشُرطي من الداخل، أو حتى المفاوضات الدبلوماسية الجادة مع طالبان، والتي كان من الممكن أن تنجح. يرى عبد الحق أن الولايات المتّحدة ربما كانت "تحاول فقط إظهار عضلاتها، وتسجيل انتصارٍ يخيف الجميع في أنحاء العالم.، بلا اكتراث لمعاناة الأفغان، وكم منهم سيموت".
يؤكد وجهة نظر عبد الحق ما قاله ريتشارد كلارك، رئيس المجموعة الأمنية المناهضة للإرهاب بالبيت الأبيض، أثناء حكم بوش، عن الاجتماع الذي وضعت فيه خطط الهجوم على أفغانستان. عندما أخبر أحدهم الرئيس بأن مثل هذا الهجوم يعد انتهاكًا للقوانين الدولية، صرخ الرئيس قائلًا: "لا أكترث لما يقوله المحامون الدوليون؛ نحن سنركل بعض المؤخرات!". ولا حاجة بالطبع إلى ذكر تبعات التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان المسكينة.
ثم جاء الدور على العراق. الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق "جريمة القرن الواحد والعشرين الكبرى". كانت العراق تعاني بالفعل قبل الاحتلال من العقوبات الاقتصادية شديدة الوطأة، التي وُصفت بأنها "حملة إبادة" ضد الشعب العراقي، دمرت المجتمع وألحقت به الكثير من الخسائر. ثم جاء الاحتلال في 2003 ليقتل مئات الآلاف، ويشرد الملايين، ويبدأ صراعًا طائفيًا ما زال مشتعلًا حتى يومنا هذا في المنطقة. طبقًا لاستطلاعات الرأي التي أجراها البنتاغون ووزارة الدفاع البريطانية، لم يؤمن الشعب العراقي بشرعية التدخل العسكري في بلاده، ولا أراد بقاء قوات التحالف، بل وأيد الهجمات ضدها. وفي النهاية انسحبت القوات الأمريكية من العراق لتترك، فائزًا واحدًا: إيران.
ليبيا، التي قطعت فيها بريطانيا، فرنسا وأمريكا الأمل في احتمالية التسوية بين الثوار والحكومة، حين تدخّلت بقواتها الجوية إلى جانب الثوار، عام 2011، لترفع الخسائر البشرية إلى 10 أضعاف، وتنتهك قرار مجلس الأمن رقم 1973 بإنشاء منطقة حظر جويّ فوق ليبيا. لم يترك ذلك التدخّل ليبيا أنقاضًا فحسب، وإنما وفّر البيئة الممتازة لتنظيم "الدولة الإسلامية" لتوسيع دائرة عملياته وانتشارها في المنطقة. تجاهلت القوى الكبرى مجددًا العروض الدبلوماسية المقدمة من الاتحاد الإفريقي، وتدفّق السلاح والجهاديين إلى الشام، وأُخرِج المزيد والمزيد من اللاجئين، انتصارٌ آخر لـ"التدخل الإنساني".
ما يُريده الإرهاب
اليوم، بفضل السياسات العسكرية، انتشر الإرهاب الجهادي من أفغانستان إلى أنحاءٍ شتى، من إفريقيا إلى الشام إلى جنوب وجنوب شرق آسيا، إلى هجمات متفرقة على أوروبا والولايات المتّحدة. يقدّر خبراء أنّ حرب العراق تسببت في ارتفاع المعدلات السنوية للهجمات الجهادية إلى سبعة أضعاف. وفي دراسات أخرى أجراها معهد أوسلو لأبحاث السلام، نرى أنّ ثلثى نزاعات المنطقة نشأت عن خلافاتٍ داخلية حاولت جهات خارجية فرض حلول إجبارية لها، وأنّ 98% من الخسائر الناتجة عن هذه النزاعات حدثت بعد التدخل العسكري الخارجي.
يرى "بولك" في كتابه، "السياسة العنيفة"، أن التدخل الخارجي دائمًا ما يتبع نمطًا معيّنًا: يأتي الغزاة، ربّما بنوايا حسنة؛ يكرههم الشعب؛ يعصاهم، في البداية بطرق بسيطة؛ يستخدم المحتلّ القوة؛ تزداد المقاومة ويزداد داعموها؛ تدور دائرة العنف حتى يحدث أمر من اثنين: انسحاب المحتل، أو نجاحه في إخضاع الشعب بوسائل تقترب من الإبادة.
وتؤكد الدراسات أن هذا بالضبط ما تريده "القاعدة"، و"الدولة الإسلامية"، والولايات المتحدة وحلفاءها يقدمونه لهم بكفاءة. تدريجيًا تنغمس هذه القوى في مستنقع الشرق الأوسط، استجابة لاستفزاز الجماعات، لتشتعل الحروب وتصبح المجتمعات بالشرق الأوسط ضعيفة بشدة، وهو ما يسمح للجهاديين بالتوسع والسيطرة على مزيد من الموارد، ورفع مستوى العنف، لتدور الدائرة التي تحدث عنها بولك في كتابه. يقول سكوت آتران، أحد أهم باحثي الحركات الجهادية، أن هجمات 11 سبتمبر، بمقياس التكلفة والعائد، حققت "نجاحًا ساحقًا يفوق حتى تصور بن لادن الأصلي لها".
أيضًا هناك اعتقاد خاطئ بأن هذه الجماعات المتمردة ستنهزم بمقتل زعمائها. توجد العديد من الأمثلة التي توضح خطأ مثل هذا الاعتقاد، يُستبدل فيها الزعيم المقتول بآخر أقل سنًا، وأكثر إصرارًا، وكفاءة، ووحشية. وفي الوضع الحالي، فإن زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية"، أبو بكر البغدادي، على خلاف مع زعيم تنظيم "القاعدة"، أيمن الظواهري. وعليه، فإن مقتل البغدادي سيمهّد الطريق أمام تقارب المنظمتين، لتنشأ قوة إرهابية جبارة، تمتلك موارد غير مسبوقة.
أيضًا هناك "سايكس بيكو". لكثير من سكّان المنطقة، تمثّل "سايكس بيكو" مهزلة الإمبريالية الغربية، ووحشيّتها. يقول روبرت فيسك، إن أحد أوائل المقاطع المصورة التي أنتجها تنظيم الدولة، تُظهر جرافة تزيل الحاجز الترابي الحدودي بين العراق وسوريا، ثم تتحول الكاميرا إلى لافتة ملقاة على الرمال، مكتوبٌ عليها بخط اليد: "نهاية سايكس بيكو". تلك الاتفاقية التي قسّمت المنطقة إلى عدة دولٍ مصطنعة بهدف تأمين المكاسب الاستعمارية للغرب، متجاهلةً اهتمامات سكان المنطقة أنفسهم، لتحوّل "مقاطعات الإمبراطورية العثمانية، الهادئة نسبيًا، إلى بعض من أقل الدول استقرارًا وأكثرها انفجارًا في العالم"، على حدّ قول فيسك، وهو ما يخدم تمامًا أغراض الإرهاب.
بعد اتفاقية "سايكس بيكو"، والتدخلات العسكرية الغربية المتكررة في المنطقة، والتي نشأت عنها أزمة اللاجئين حاليًا، يستقبل الغرب "البريء" الآن، اللاجئين على مضضٍ، ويستوعبهم تفضلًا. قرّرت ألمانيا – البالغ عدد سكانها 80 مليونًا – في بادئ الأمر استقبال مليون لاجئ، بينما استقبلت لبنان مليونًا ونصف من اللاجئين السوريين، هم ربع سكانها الآن، بالإضافة إلى نصف مليون لاجئ فلسطيني مُسجّل بوكالة "أونروا".
تغيّر جذري في سياسات مواجهة الإرهاب
على ضوء ما سبق، تبرز ضرورة تغيير الاستراتيجيات المُحاربة للإرهاب جذريًا. يعتقد بولك، مؤلف كتاب "السياسة العنيفة"، أنّ الاستراتيجية الأفضل تتمثل في برنامج عالمي يستهدف تحقيق الرخاء، ويحوّل الاتجاه من العنف إلى التفاوض، وينزع الكثير من الحقد والغلّ تجاه الغرب. يرى بولك أن اعتذارًا عن التجاوزات لن يكلّف القوى الغربية كثيرًا ولكنه سيحقق الكثير. فما يجذب الجهاديين ليس تعليم القرآن بقدر ما هو "القضية المثيرة والنفير الذي يعد بالمجد والفخر في عيون الأصدقاء"، على حد قول الباحث سكوت آتران.
أمر آخر لا يقل في الأهمية، هو تغيير التعامل مع أزمة اللاجئين، باستقبال المزيد منهم في البلاد الأوروبية؛ المتسبب الحقيقي في الأزمة، أوعلى الأقل بزيادة الدعم الإنساني للمخيمات في لبنان، الأردن وتركيا بسخاء، والتي يعيش فيها اللاجئون بالكاد.
شرق آسيا: تحرّكات صينية حذرة لإبعاد الولايات المتّحدة
من أغم القوى المهدّدة للتواجد الأمريكي، الصين. يُدرك قادة الصين جيدًا المخاطر المُحيطة بطرق النقل البحري، مثل اليابان من خلال مضيق ملقا، هذه القوى التي يدعمها الجيش الأمريكي. لذا تتوخّى الصين الحذر في تحركاتها تجاه التوسّع غربًا. بعض هذه التحركات تقع في نطاق منظمة شانغهاي للتعاون، التي تضم دول وسط آسيا، روسيا، وقريبًا ستضم الهند وباكستان، وإيران كمراقب. رفضت منظمة شانغهاي رقابة الولايات المتّحدة، بل وطالبتها بإغلاق كل قواعدها العسكرية في المنطقة.
تطمح الصين إلى إنشاء نسخة حديثة من "طريق الحرير"، لتؤسس نظامًا آسيويًا تجاريًا متكاملًا، لا يربط مناطق نفوذ الصين فحسب، وإنما يمتد إلى مناطق إنتاج النفط في أوروبا والشرق الأوسط. أحد عناصر هذا البرنامج هو طريق سريع يمر ببعض من أعلى جبال العالم ليصل إلى ميناء جوادار الذي أنشأته الصين في باكستان، ليحمي بذلك شحنات النفط من أي تدخل أمريكي محتمل، ويحقق التطور الصناعي بباكستان، ويساعدها على التحكم في الإرهاب الداخلي، ستكون جوادار جزءًا من "عُقد اللآلئ": القواعد الصينية التجارية وربما العسكرية على المحيط الهندي.
كذلك أنشأت الصين عام 2015 "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية" AIIB، والذي شاركت 56 دولة في افتتاحه ببكين، منها بعض حلفاء الولايات المتّحدة، في غياب الولايات المتّحدة واليابان. يرى بعض المحللين أن البنك ربما يصبح منافسًا لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، اللذان تتمتع فيهما الولايات المتّحدة بحق الفيتو.
شرق أوروبا: روسيا تُجابه انتشار الناتو
ننتقل إلى روسيا، حيث الأزمة الراهنة التي تدخّلت فيها روسيا عسكريًا في أوكرانيا. ريتشارد ساكوا، الأستاذ بجامعة كنت، في دراسة له حول الأزمة الحالية، يُرجع بدايات الأزمة إلى عام 1991، نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي. وقتها برزت رؤيتان لمستقبل أوروبا، كما يقول ساكوا. الأولى هي "أوروبا الأوسع" Wider Europe، مركزها الاتحاد الأوروبي، وتشمل كل ما يتعلق بالأمن والمجتمع السياسي الأوروأطلنطي. والثانية هي "أوروبا الأعظم" Greater Europe، القاريّة الممتدّة من لشبونة إلى فلاديفوستوك، لها مراكز متعدّدة في بروكسل، موسكو وأنقرة، تتوحّد جميعها لإنهاء الخلافات التي أفسدت القارة. كان القائد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف من أهم الدافعين باتجاه هذه الرؤية.
لكن مع انهيار روسيا في التسعينيات نتيجةً للإصلاحات الاقتصادية، تراجعت تلك الرؤية. استقبل الغرب انهيار روسيا على أنّه "نهاية التاريخ"، و"الانتصار النهائي للرأسمالية"، وبدأ توسع الناتو على الفور ليصل إلى الحدود الروسية، على الرغم من تأكيد القوى الغربية لغورباتشوف أن هذا لن يحدث في حال موافقته على انضمام ألمانيا إلى حلف الناتو. تغيّرت كذلك مهمة الناتو رسميًا لتصبح تأمين البنية التحتية لنظام الطاقة العالمي، والخطوط البحرية والأنابيب، لتشمل مهمتها العالم بأسره، ويُسمح لها بالتدخّل العسكري بناءً على أوامر الولايات المتّحدة بعد مراجعات غربية لعقيدة "مسؤولية الحماية"، التي تُلزم أعضاء الأمم المُتحّدة بالتدّخل لمنع جرائم الإبادة، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية.
لم يسلط الضوء على "أوروبا الأعظم" مرة أخرى إلا بعد تعافي روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين، وزميله ديميتري ميدفيديف. لكن الدعوات التي أطلقتها روسيا من أجل "الشراكة الاستراتيجية" قُوبلت بالتشكك، فقد اعتُبرت، كما يقول ساكوا، مجرد غطاء لإنشاء "روسيا الأعظم"، وإفساد العلاقات بين أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. ثمّ جاء الوعد الذي تلقته كل من جورجيا وأوكرانيا بالانضمام للناتو، في القمة المنعقدة بمدينة بوخارست، عام 2008، لتسوء العلاقات أكثر بين جورجيا وروسيا ويندلع النزاع المسلّح بينهما في ذات العام، ثم تأتي الأزمة الأوكرانية عام 2014.
المخاوف الروسية مشروعة ومفهومة، كما كتب الأكاديمي بجريدة "فورين أفيرز"، جون ميرشايمر، إذ يرى أنّ السبب وراء أزمة أوكرانيا الحالية هو عدم فهم الولايات المتّحدة لموقف موسكو من توسع الناتو، الذي يهدد مصالحها بشدة، والإصرار الأمريكي على اجتذاب أوكرانيا ووضعها في كفة الغرب بدلًا من الشرق. في الواقع، لا تتحمّل الولايات المتّحدة أي عصيانٍ ناجح لهيمنتها المنشودة على العالم.
من يحكم العالم الآن؟ وما هي القيم والمبادئ التي تحكمه؟ هذا السؤال يجب أن يجيب عليه من يحتكرون صناعة القرار الآن، هؤلاء الذين يتمتعون بالحرية، والامتيازات، والفرص، بفضل الصراعات التي خاضها سابقوهم، وعلى أساسه، ستتحدد الخطوات القادمة استجابةً للتحديات العالمية.
موقع: real clear world