روسيا – تركيا: خلافات بالجملة ومصالح تمنع تفجرها

11.01.2020

بعد أيام قليلة من قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، يزور يوم غد الأحد وزيرا الخارجية والدفاع التركيين، روسيا، لبحث جملة من القضايا التي تشغل العلاقات بين البلدين. فما الذي يستدعي هذه الزيارة بعد أيام قليلة من قمة بوتين – أردوغان؟ هل فعلا هناك ما هو مستجد أم أن ثمة قضايا خلافية لم تحسمها قمة القيصر والسلطان خاصة وأن الرجلين لم يدليا بأي
تصريح عن إدلب؟.

في الواقع، من يدقق في طبيعة العلاقات القائمة بين روسيا وتركيا، لا بد أن يجد نفسه أمام استراتيجيات متناقضة إزاء معظم القضايا الإقليمية في المنطقة، وفي الوقت نفسه لا بد أن يجد نفسه أمام سياسة تحاول إدارة هذه الخلافات لصالح مشاريع اقتصادية ضخمة، فضلا عن دور العلاقة مع واشنطن في كيفية إدارة هذه الخلافات، فالانسجام الروسي – التركي الناجم عن التفاهمات والتوافقات بينهما، كثيرا ما يخفي خلفه خلافات عميقة، ومع هذه المفارقة المستمرة، تحولت الخلافات بينهما إلى ما يشبه جمراً يتقد ويكاد يشتعل أو ينفجر هنا أو هناك، ولعل من أهم هذه الخلافات:

  - ملف إدلب:

تؤكد روسيا ضرورة استعادة الحكومة السورية سيطرتها على محافظة إدلب، وعليه كلما شن الجيش السوري بدعم روسي مباشر حملة عسكرية للتقدم في هذه المحافظة، كلما حذرت تركيا من التصعيد العسكري، وقدمت أسلحة جديدة للجماعات المسلحة لمنع تقدم الجيش السوري، هنا سرعان ما تلجأ موسكو إلى القول إن تركيا لا توفي بالتزاماتها الواردة في اتفاق سوتشي، ولا
تقوم بالدور الكافي تجاه "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة)، لتبدأ لاحقا مباحثات بين الطرفين وغالبا ما تنتهي بتفاهمات على شكل هدن أو صفقات لا تحل القضية، فيما يبقى الخلاف مستمرا بينهما ورهنا بالتطورات الجارية. 
              
ملف قسد:

مع أن معظم العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا جرت بتفاهمات روسية – تركية كما حصل في عفرين وجرابلس ورأس العين – سري كانيه، إلا أن الانفتاح الروسي التدريجي على قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عقب العدوان التركي المعروف بعملية "نبع السلام" برزت حساسية تركية تجاه التوجه الروسي هذا، وعليه كلما ادعت تركيا أن قوات قسد لم تنسحب من كامل المناطق التي نص عليها اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا عقب عملية (نبع السلام)، وهددت باستئناف العدوان، ردت موسكو بأن "قسد" نفذت الانسحاب الكامل من تلك المناطق، وأبدت استغرابها من التصريحات التركية هذه، وفي العمق تخشى تركيا من دور روسي يؤدي إلى اتفاق حل بين "قسد" ودمشق، نظراً لما سيشكل مثل هذا الاتفاق ضربة للأطماع التركية في شمال سوريا وشرقها، وتشكيل قوة كبيرة على الأرض من شأنها محاربة نفوذ تركيا في شمال شرقي سوريا، والقضاء على نفوذ الجماعات المسلحة المرتبطة بها.
                    
  - ملف ليبيا:

مع التدخل العسكري التركي في ليبيا عقب اتفاقية أردوغان – السراج، بات الملف الليبي نقطة خلافية جديدة بين روسيا وتركيا رغم دعوة بوتين - أردوغان إلى وقف لإطلاق النار في ليبيا، فالثابت أن تركيا تدعم السراج الذي يمثل الجماعات المسلحة التي باتت سيطرتها محصورة فقط بالعاصمة طرابلس، فيما على العكس تدعم روسيا الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر
الذي تتقدم قواته بخطى كبيرة لتحرير طرابلس من سيطرة الجماعات المسلحة المرتبطة بتركيا، وهي بمعظمها جماعات إسلامية متشددة من "القاعدة" و"الإخوان المسلمين" حيث تتخذ قيادتها من تركيا مقرا لها.

وعليه مع تقدم  قوات الجيش الليبي نحو طرابلس فإن التفاهم الشكلي بين بوتين وأردوغان بشأن ليبيا، قابل للانهيار في ظل إعلان الجيش الليبي رفضة لوقف إطلاق النار وتأكيده ضرورة استعادة طرابلس وإسقاط اتفاق أردوغان – السراج، وبناء الدولة الوطنية الليبية.

- ملف أوكرانيا:

وهو ملف خلافي قديم – جديد بين روسيا وتركيا، فتركيا أعلنت مراراً رفضها لضم روسيا جزيرة القرم في شرقي أوكرانيا حيث تعدها تركيا جزءاً من أمنها القومي على اعتبار أن سكانها الأصليين هم من الأتراك العثمانيين فيما ترفض روسيا هذا المنطق جملة وتفصيلا وترفض التدخل التركي، ورغم أن الخلاف بين الجانبين بهذا الخصوص خفت حدته إلا أنه في العمق مثل الجمر الخامد تحت التوافقات الآنية التي قد تنفجر في أي لحظة.
                                                                

     في الواقع، الخلافات الروسية – التركية تحمل رؤية تاريخية تنطلق من عمق الصراع التاريخي بين الامبراطوريتين الروسية والعثمانية، وهي رؤية تحمل تناقضا استراتيجياً بحكم تضارب السياسات المتعلقة بالعمق الجيوسياسي والدور والتطلعات، وعليه يمكن فهم أبعاد الجدل الروسي – التركي الذي لا يتوقف، دون أن يعني ما سبق أن التفاهمات بين الجانبين فقدت دورها الوظيفي ولاسيما في الأزمة السورية التي تبرز كمجال حيوي للطرفين، إذ أن العوامل التي وقفت وراء التفاهمات بين الجانبين مازالت قائمة، وهي تتعلق أولا بالتصويب المشترك على النفوذ الأمريكي في شرق الفرات، كل طرف لأسبابه الخاصة، وكذلك بدور التوتر الجاري في العلاقات التركية – الأمريكية، ومحاولات روسيا الحثيثة إخراج تركيا من الحلف الأطلسي لصالح استراتيجيتها الأوراسية، لتسجل بذلك انتصاراً كبيراً على الأطلسي من بوابة تركيا، فيما تتقارب الأخيرة مع روسيا تعويضاً عن تفاقم الخلاف مع الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي، ولتحقيق نوع من التوازن في علاقاتها بالطرفين، فضلا عن أهمية دور المصالح الاقتصادية التي تتعزز بين موسكو وأنقرة ولاسيما في مجال الطاقة وخطوط إمداد الغاز الروسي عبر الأراضي التركية إلى أوروبا، حيث افتتح بوتين – أردوغان خط غاز السيل التركي الذي ينقل الغاز الروسي عبر تركيا إلى بلغاريا واليونان ومقدونيا ومن ثم لاحقا إلى الدول الأوروبية، وإلى جانب المشاريع الاقتصادية يشكل ملف صفقات الأسلحة كما حال المنظومة الدفاعية الصاروخية (إس – 400)، وكذلك بناء روسيا أول مفاعل نووي تركي في أقويو.. كل ذلك يشكل رافعة لتدوير الخلافات التركية – الروسية رغم التناقض الاستراتيجي بين البلدين.
      في الواقع، زيارة كل من مولود تشاويش أوغلو وخلوصي أكار إلى موسكو بعد أيام قليلة من قمة بوتين – أردوغان، تعبر عن جدل القضايا الخلافية،  وكيفية إدارتها، ورهن منع تفجُّرها بالاستمرار في سياسة الصفقات والتوافقات تجاه السياسة الأمريكية دون أن تتحول إلى علاقة تحالفية راسخة