إردوغان وسوريا: بين النظرية والتطبيق
مع اقتراب موعد اللقاء "التاريخي" بين الرئيس إردوغان ونظيره الأميركي ترامب 13 الشهر الجاري بدأ الرهان مُبكراً حول النتائج المُحتمَلة للمباحثات المتوقّع لها أن تقرّر مصير مجمل المُعطيات التي عكَّرت وتعكِّر صفو العلاقات التركية - الأميركية بعد 'الغرام المُفاجئ' بين إردوغان والرئيس بوتين صيف 2016.
وتكتسب الزيارة أهمية إضافية لأنها تأتي بعد سلسلة من التغريدات والتصريحات وأخيراً الرسالة التي بعث بها ترامب للرئيس إردوغان وأهانه فيها شخصياً بعد أن هدَّده وتوعَّده بتدمير اقتصاد بلاده. وتهرّب إردوغان من الرد على أسلوب ترامب "الوقِح" والقول لقيادات المعارضة التي قالت إن إردوغان بحاجة لترامب، أو على الأقل لا يريد نسف الجسور برمّتها بعد أن بات واضحاً أن واشنطن تستطيع أن تخلق له الكثير من المشاكل في ما يتعلّق بثروته الشخصية، وبالتالي وضعه في سوريا، وذلك عبر وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني التركي، وهذا صحيح.
ومن دون أن يمنع هذا التناقض الطرفين التركي والأميركي من الاتفاق "غير المُعلَن" على أن هذه الوحدات على الرغم من خطرها النظري على تركيا، إلا أنها أكثر خطورة على سوريا طالما هي مستمرّة في تعاونها مع الأميركان الذين إنْ بقوا في سوريا فسوف يساهم ذلك في تقسيم هذا البلد الجار، ليس فقط لتركيا بل لكل من العراق ولبنان، وهما البلدان العربيان اللذان يعانيان من مشاكل داخلية لها علاقة مباشرة بالسيناريوهات المُحتمَلة في سوريا.
فقد عملت أنقرة، أيّ الرئيس إردوغان، منذ بداية الأزمة، وهو أحد أسبابها الرئيسة، على إسقاط الرئيس الأسد حتى لو أدّى ذلك إلى تقسيم سوريا لصالح تركيا. ومن دون أن يهمل إردوغان حديثه المُتكرّر عن التزامه بوحدة سوريا أرضاً وشعباً وهو كلام نظري يتناقض جملة وتفصيلاً مع ما تقوم به أنقرة على أرض الواقع غرب الفرات والآن في شرقه، وهذا ما يشير إليه عدد كبير من الجنرالات والدبلوماسيين والإعلاميين الأتراك.
فحتى إن تجاهلنا الدور التركي في تشكيل ما يُسمّى بالمجلس الوطني السوري صيف 2011، ومن قبله ما يُسمّى بالجيش الحر، وما يُسمّى بالحكومة الانتقالية، فقد تحدَّث زعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو عشرات المرات عن دور ومسؤولية إردوغان المباشرة في وضع سوريا الحالي عبر تقديم كافة أنواع الدعم للمجموعات المسلّحة ومعالجة عناصرها في المستشفيات التركية، وفتح الحدود على مصراعيها أمام عشرات الآلاف من الإرهابيين الأجانب الذين دخلوا سوريا للقتال في صفوف "داعش" و"النصرة" وغيرها.
وشهدت علاقات أنقرة آنذاك توتّراً خطيراً مع كل من طهران وموسكو بسبب دعمها للرئيس الأسد، ويبدو واضحاً أن المُصالحة بينه وبين إردوغان باتت من سابع المستحيلات وتحقيقها يحتاج إلى ست معجزات! ويُفسّر ذلك المزيد من التناقض في الموقف التركي مع استمرار تواجد القوات التركية غرب الفرات من جرابلس حتى الريف الشمالي الشرقي للاذقية، ومعها عشرات الآلاف من عناصر مختلف الفصائل التي وحَّدتها أنقرة تحت اسم الجيش الوطني، واعتبره كليجدار أوغلو انتهاكاً صارخاً لسيادة الدولة السورية على كامل التراب السوري، وجزء منه الآن تحت سيطرة الجيش التركي وبضوء أخضر روسي.
فيما لم يتردّد الرئيس إردوغان من امتداح عناصر هذا الجيش ومَن سقط منهم في الحرب شرق الفرات وغربه فهو "شهيد" وفق تصنيف إردوغان، الذي يقول عن هذا الجيش بأنه "وطني مُخِلص ويُقاتِل من أجل تحرير وطنه"، فيما يُقال عن الجيش السوري بأنه جيش الأسد أو النظام!
مساعي أنقرة منذ آب 2016 لتتريك مناطق غرب الفرات وهو ما نجحت فيه حتى الآن، وبات يشكّل خطراً على مستقبل المنطقة، يبدو أنه سيتكرَّر شرق الفرات طالما أن أنقرة بتصرّفاتها الحالية تثبت بأنها لا تريد الحل في سوريا، وبقاؤها هكذا هو لصالحها. وهذا هو التناقض الأكبر بين النظرية والتطبيق في مقولات وأفعال الرئيس إردوغان، ويعرف الجميع أنه لن يتردَّد في اتّخاذ المزيد من هذه المواقف بعد مباحثاته مع الرئيس ترامب. فإنْ نجحت هذه المباحثات فسوف يُشجّع ذلك إردوغان لإلقاء خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء طالما أن الرئيس بوتين لن يستطع الضغط عليه اعتقاداً منه أن "الفيل الأميركي" سيكون إلى جانبه ضد "الدب الروسي".
وقد يكون مثل هذا النجاح وهو مُستبعَد إلا في حال استسلامه للإرادة الأميركية سبباً كافياً لتأجيل الحل النهائي في سوريا طالما أن كل الأطراف راضية عن هذا الوضع وهو على حساب الشعب السوري وهو دائماً الضحية منذ استقلال البلاد. فقد كانت أنقرة في خمسينات القرن الماضي طرفاً مباشراً في أزمات المنطقة وسوريا بشكلٍ خاص كما هي عليه الآن في عهد إردوغان الذي يسعى إلى كسب ودّ الأميركان كما فعل ذلك رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس عندما قال إنه سيجعل من تركيا "أميركا صغيرة"، فأطاح به الجنرالات وأعدموه ولم يحرّك الأميركان ساكِناً، وهو طبعهم العام الذي أثبتوه مع شاه إيران ومبارك وبن علي وآخرين من الذين خدموهم لسنواتٍ طويلة.
كما يعكس الموقف التركي في إدلب على الرغم من وعود إردوغان المُتكرِّرة للرئيس بوتين، رغبة أنقرة الواضحة لعرقلة أو تأخير المُعالجة النهائية أو الحل الشامل للأزمة التي كلما طال أمدها، فالحظ سيحالف الرئيس إردوغان لتطبيق مشاريعه ومخطّطاته الخاصة بسوريا وعبرها في المنطقة عموماً. ولذلك علاقة مباشرة "بجهاده الأكبر" من أجل أسلَمة الدولة والأمّة التركية ومصيرها مع مصير إردوغان سيتقرَّر في سوريا، وهو ما يحتاج إلى مزيد من التناقض المقصود بين النظرية والتطبيق.
وإلا فالموضوع لا يحتاج إلى كل هذه الأحاديث المُعقّدة التي يستطيع إردوغان أن يتجاوزها خلال 24 ساعة وفي جلسة واحدة مع صديقه السابق الرئيس الأسد. وكانت العلاقة بينهما "مميّزة ونموذجية" وفق كلام الرئيس السابق عبد الله جول، وهو الآن عدو إردوغان الأول، فما بال الرئيس الأسد الذي هو في وضع لا يُحسَد عليه في علاقاته مع إردوغان.
ويعرف الجميع أن له حسابات خاصة في سوريا لأنها أفشلت المشروع الإخواني برمّته كما هي أسقطت أحلام الخلافة والسلطنة العثمانية الجديدة فدفعت الثمن غالياً!