أميركا: الأمن القومي على كفّ... تغريدة!
من المفارقات التي عمل دونالد ترامب على ترسيخها، منذ تسلّمه السلطة، هي اعتماد وسائل الإعلام على تغريداته على اعتبار أنها أكثر «صدقاً» من بيانات البيت الأبيض. وطالما أثارت هذه التغريدات موجة من الانتقادات، فقد رافقتها نقاشات كثيرة تتعلّق بتوصيفها السياسي والقانوني والإنساني.
لا يعدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب وسيلة لإثارة الجدل؛ وإن بدا في الواقع متعطّشاً للحروب، لكنه متمنّع عن خوضها، فهو في العالم الافتراضي يشنّها ويقاتل في معارك، حتى باتت تغريداته تؤلّف جيشاً وحرساً وطنياً وقوات مكافحة شغب، ستترك له إرثاً افتراضياً غير معهود.
يوم الخميس الماضي، وقعت آخر تغريداته كالصاعقة على قادة الحزب الجمهوري ومسؤولي البيت الأبيض، فيما حطّت عند وسائل الإعلام الأميركية بمثابة هدية استخدمتها لتسعير نار العداوة بينها وبين ترامب. غرّد الرئيس عن الإعلامية الأميركية ميكا بريزنسكي ــ إحدى مقدمات البرامج على قناة «ام اس ان بي سي» ــ واصفاً إياها بـ«قليلة الذكاء والمجنونة ميكي». وقال إنها وشريكها في تقديم البرامج على القناة حاولا إقناعه بإجراء مقابلة في رأس السنة، ليضيف في تغريدة أخرى: «كانت تنزف بشدة بعد عملية شدّ للوجه، فقلت لا».
ومنذ ذلك اليوم، يشهد العالم الافتراضي مناوشات بين ترامب ووسائل الإعلام، أوصلته إلى حدّ تسمية شبكة «سي ان ان»، أمس، بـFraud News Network بدل Cable News Network، أي «شبكة الاحتيال للأخبار»، مرفقاً ذلك بنشر فيديو على صفحته على موقع «تويتر» وهو «يصارع ويَلكُم رجلاً، رأسه عبارة عن شعار سي ان ان».
ترامب يملك تاريخاً طويلاً من التغريدات المثيرة للجدل، يمتد إلى ما قبل حملته الانتخابية الرئاسية. وللمفارقة، تترك غالبيتها وقعاً صادماً على المسؤولين والرأي العام الأميركيين، وخصوصاً تلك التي ينشرها بعد منتصف الليل وفي وقت مبكر من الصباح. ووفق ما يراه البعض، إن دلّ ذلك الأمر على شيء، فعلى انعدام الثقة بينه وبين موظفيه، في مقابل اعتماده بشكل كامل على هذه الوسيلة لإيصال أفكاره، وربما يكفي تصفّح موقع www.trumptwitterarchive.com لإدراك ذلك.
من مناقضة بيانات البيت الأبيض، إلى مناقضة نفسه بإشارته إلى احتمال وجود تسجيلات لمناقشات مع مدير مكتب التحقيقات السابق جيمس كومي، ثمّ نفيه وجود هذه التسجيلات، كلّها تغريدات نشرها ترامب عبر «تويتر» بعد انتخابه، وأثارت موجة انتقادات متفاوتة، فيما تواصلت على هامشها نقاشات انطلقت من توصيفها «الإنساني»، مروراً بوقعها على الأمن القومي ومدى قانونيتها، لتصل إلى تأثيرها على الحياة السياسية الأميركية، عموماً.
في الشق الإنساني، ينتقد كثيرون هذه التغريدات على أنها «فجّة» و«مليئة بالعنصرية»، ومن بين الجمهوريين من يشدّد على وجوب أن يهتم الرئيس بتطبيق أجندته، بدل تضييع وقته في نشرها. وليس بعيداً عن الرئيس، صرّحت زوجته ميلانيا، في مقابلة برفقته غير مرة، بأنّه يذهب بعيداً في حسابه على «تويتر»، مضيفة أنها تطلب منه تخفيف حدّة لهجته، ومعترفة بأنه نادراً ما يستمع إلى نصيحتها، بل يفعل ما يريد في النهاية.
أما في الشق التنظيمي، فيواجه موظفو البيت الأبيض تخبّطاً من نوع آخر، إن لشرح تغريداته أو لتحديد ماهيّتها. المتحدث باسم البيت الأبيض شون سبنسر (الذي طالما وجد صعوبة في شرح تغريدات ترامب) أعلن أن هذه التغريدات هي «بيانات رسمية». ورداً على سؤال أحد الصحافيين قال إن «الرئيس هو رئيس الولايات المتحدة، لذا هي (التغريدات) تعتبر بيانات رسمية صادرة عن رئيس الولايات المتحدة». ولكن للمفارقة أيضاً، فقد ناقض سبنسر بذلك كلّ من مستشار الرئيس للأمن القومي سيباستيان غوركا، الذي أصرّ على أنها «ليست سياسة»، ومستشارته كيليان كونواي التي انتقدت «هَوَس» وسائل الإعلام بهذه التغريدات.
وبما أن ترامب يغرّد كثيراً، فلطالما ترافق توجّهه هذا مع نقاش قانوني، ما دفعه في أيار الماضي إلى أن «ينظر في إحداث تغييرات كبيرة في البيت الأبيض، بما فيها تعيين محامين للتحقّق من تغريداته»، وفق ما ذكرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، في الوقت الذي كان يواجه فيه تداعيات الاتهامات التي تطاله وإدارته في ما يتعلق بالتعاون مع روسيا خلال الحملة الانتخابية.
لكن مراقبة الرئيس الذاتية لم تطُل، فقد أَتبع مساعيه القاضية بتقييد تغريداته من خلال التحقّق منها، بتغريدة الـCovfefe الشهيرة، التي أطلقت عليه موجات السخرية من كل حدب وصوب، نظراً إلى عدم وجود معنى لها، كما فتحت أبواب التكهّنات عمّا يريد الرئيس قوله، في حين ارتأى البعض توضيحها بالإشارة إلى أنه عنى بها كلمة «تغطية»، عندما قال «على الرغم من (تغطيةCovfefe (Coverage السلبية المتواصلة للإعلام».
برزت هذه الكلمة كنقطة تحوّل في سلسلة تغريدات ترامب، وأعقبها ما وصفته وكالة «رويترز» بمسودة قانون COVFEFE، التي وضعها النائب الديموقراطي عن إيلنوي مايك كويغلي، وطالب بموجبها بتعديل قانون السجلات الرئاسية. كويغلي دعا الأرشيف الوطني إلى تخزين التغريدات الرئاسية وغيرها من التفاعلات الإلكترونية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على اعتبار أن «الرئيس سيستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لإصدار إعلانات سياسية عامة، وعلينا التأكد من أن هذه البيانات يجري توثيقها وحفظها للاستخدام المستقبلي»، مضيفاً أن «التغريدات قوية، وعلى الرئيس أن يحاسب على كل ما ينشره».
النقاش القانوني كان قد سبق هذا الحدث برسالة بعث بها، في آذار، عضوا الكونغرس ــ الجمهوري جايسون شافيتز والديموقراطي إيليّا كامينغز ــ إلى محامي البيت الأبيض، أعربا فيها عن قلقهما من سجل إدارة ترامب في الاستخدام غير الشفاف لوسائل التواصل الاجتماعي. ومن الأمثلة التي أشار إليها المشرّعان، هي عادة ترامب في التهجئة الخاطئة للكلمات، ولجوؤه إلى محو التغريدات لاحقاً، ما «سيشكل انتهاكاً لقانون السجلّات الرئاسية»، في حال لم تتم أرشفة التغريدات.