أمريكا جاءت لتطبق على الشرق... فأطبق عليها
أنجزَ حلفاء الأمس حرب عالمية ثانية ضد دول المحور، وانتصرا فيها، وتقاسما مع بقية الحلفاء النفوذ والسيطرة في هذا العالم، لكنهما ما لبسا أن اختلفا على إدارة البيت العالمي الجديد وبنائه، فتجددت الحرب، وكانت الحرب الباردة (Cold War)، ولكن هذه المرة بينهما، كأكبر قوتين عالمتين.
حرارة حربهما الباردة هذه سرعان ما وصلت لكل مكان في أرجاء العالم، حيث عمل كل منهما على حشد حلفائه على جبهته الخاصة، امتدت ما يقارب نصف قرن من الزمن، حتى انهيار الاتحاد السوفيتي - أحد قطبي هذه الحرب - في بدايات تسعينيات القرن الماضي، ما أدى للتفرد الأمريكي بمجريات الأحداث والتحكم بها وخلقها على الصعيد العالمي.
تضاؤل حجم النزاعات العالمية المسلحة الذي عقب انهيار الاتحاد السوفيتي باستثناء الصراع العربي – الإسرائيلي، وتوقف عقود صفقات السلاح الكبيرة – دعامة الاقتصاد الأمريكي -، دفع بالولايات المتحدة لخلق مرحلة جديدة من الصراعات المسلحة في هذا العالم، بحجة قديمة هي نشر الديمقراطية والحرية، وجديدة هي محاربة التنظيمات الإرهابية المتمثلة بتنظيم القاعدة، متخذة من "تمثيلية" هجمات 11 سبتمبر 2001، مبررا لذلك.
دفعت هذه "التمثيلية" أمريكا لجر جيوشها الجرارة للاتجاه نحو الشرق الأوسط، لغزو أفغانستان مقر تنظيم القاعدة – والذي كان يوما ذراعها الطولى في مجابهة السوفييت -، وعندما لم تفي أفغانستان بالغرض، عملت حكومة جورج بوش الابن على غزو العراق، بحجة وجود أسلحة دمار شامل لدى النظام العراقي السابق، تهدد الأمن القومي الأمريكي، وما لبس أن تبين لاحقا أنها ادعاءات لا وجود لها.
تطور الصراع العربي – الإسرائيلي وانسحاب إسرائيل الكامل من الجنوب اللبناني 25 مايو 2000 باستثناء مزارع شبعا، فرض نوعا جديدا من معادلات الصراع في الشرق الأوسط.
بدا ذلك جليا من خلال تدهور الهيبة الوجودية الإسرائيلية عقب حرب 2006، ودعّمت ذلك المقاومة الفلسطينية من خلال تصديها للاعتداءات الإسرائيلية على غزة نهاية 2008 وبداية 2009، ما دفع الولايات المتحدة للعمل على استعادة هيبة ربيبتها إسرائيل في الشرق الأوسط، من خلال عدة ممارسات، أهمها السعي لضرب وتطويق قطبي ما يعرف بمحور "الممانعة" سورية - إيران.
ترجم هذا السعي بالبدء بتنفيذ مخطط الربيع العربي، لكن الانهيار المتسارع للجمهوريات العربية في الشمال الأفريقي، لم يحقق للأمريكي هدفه، الذي سعى وخطط وأستحضر له كل الاستعدادات والإمكانيات ماديا ولوجستيا ومن ورائه حلفاؤه الدوليين والإقليمين، في تطويق وتدمير سورية - العمق الاستراتيجي والطبيعي لقوى المقاومة في الشرق الأوسط - وفي عزل إيران عن دعم هذه القوى أيضا.
الصمود الذي واجهت به الدولة السورية قوى المؤامرة عليها، قلب الطاولة على رؤوس جميع أطراف العدوان وخاصة المايسترو الأمريكي، ما أدى لتغيرات جذرية بالنسبة للتعاطي الأمريكي مع هذه المتغيرات على مستوى منطقة الشرق الأوسط، وبالنسبة أيضا للتعاطي مع الوجود الأمريكي من قبل اللاعبين الإقليمين الأبرز في الشرق الأوسط سوريا وإيران.
لكن الحدث الأبرز من ضمن هذه المتغيرات الجذرية، كان عودة روسيا الاتحادية للمنافسة على القطبية العالمية من جديد، ودخولها حلبة الصراع ندا لند مقابل الأمريكي.
وفي جردة حسابات سريعة، يمكننا أن نذكر أهم التغيرات التي أعقبت الرغبة الأمريكية بتدمير الدولة السورية، وعزل إيران، وهي:
أولا – إقرار الانسحاب الأمريكي من العراق في عهد الرئيس الأمريكي السابق أوباما بنهاية عام 2011، لعدم تحمل كلفة الوجود العسكري الإضافية.
ثانيا – التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، بعد مفاوضات شاقة استمرت لمدة (12) عاما، انتهت بالجلوس على الطاولة الإيرانية وتوقيع هذا الاتفاق، الذي يتيح لإيران ممارسة حقوقها العالمية كاملة.
ثالثا – على الساحة السورية، والتي تشكل المفصل الرئيس لجبهة الأحداث اليوم، نجد أن أهم هذه المتغيرات:
حالة التصادم على المستوى الأممي التي شكلها استخدام الفيتو المزدوج الروسي – الصيني، لأكثر من (10) مرات خلال الحرب، كان آخرها ضد المشروع الياباني المقدم في 17 نوفمبر الماضي.
عقد سلسلة مؤتمرات في جنيف بدءا من 2012 كان آخرها جنيف 8 في 2017، بحجة أيجاد منصة دولية للتدخل في الشأن السوري.
التهديد بضربة أمريكية عل سوريا في عهد أوباما، والتلويح بذلك من خلال دفع البوارج الأمريكية لشرق المتوسط في سبتمبر2013، بذريعة استخدام الحكومة السورية أسلحة كيمائية، والعزوف عنها لأسباب غامضة، ثم إقدامهم على فعل ذلك في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب، وقصف مطار الشعيرات بـ (59) صاروخ "توماهوك" في ابريل 2017، تحت اسم ضربة "محدودة" لذات الذريعة أيضا.
تشكيل ما عرف بالتحالف الدولي خارج إطار مجلس الأمن في سبتمبر 2014، بحجة محاربة تنظيم داعش، والذي هو صناعة أمريكية، حسب ما ورد من اعترافات في كتاب "خيارات صعبة" لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كيلنتون.
قضاء الجيش السوري على داعش، أجبر الأمريكي على الظهور كأصيل بعد اندحار وكلائه الإرهابيين، من خلال إنشاء (14) قاعدة له شرق الفرات، وتشكيل ما يعرف بـ قوات سورية الديمقراطية والتي غالبيتها من الأكراد السوريين، ما خلق نوع من الصدام السياسي مع حليفه التركي، لعقدة ملف الأكراد بالنسبة للأخير.
إصدار ما عرف "بورقة فيينا" التي حملت مجموعة من التوصيات إلى مبعوث الأمم المتحدة في سوريا "ستافان ديمستورا"، كمحاولة للتشويش على مؤتمر الحوار الوطني السوري، الذي عقد في مدنية "سوتشي" الروسية نهاية كانون الثاني الماضي.
إسقاط طائرة الـ (F16) الإسرائيلية فوق الأرض المحتلة في العاشر من شباط الماضي، وسقوط حالة التفوق الجوي لإسرائيل معها، والذي على ما يبدو كان سببا أساسيا في مطالبة إسرائيل مؤخرا الأمم المتحدة لإعادة قوات(UNDOF) إلى مواقعها عام 1974، التي كانت قد طردتها بنفسها لدعم الجماعات الإرهابية في الجنوب السوري.
عدم الالتزام بتطبيق القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن بالإجماع حول الوضع السوري منذ بدء الحرب، والتي بلغت (30) قرارا كان آخرها قرار الهدنة حول الغوطة الشرقية رقم (2401)، ومن ضمنها (13) قرار حول مكافحة الإرهاب فقط.
اللجوء منذ اللحظات الأولى لبدء الإرهاب في سورية، لمحاولات فبركة واختلاق ذرائع تدين الدولة السورية بحجة استخدام الأسلحة الكيمائية، رغم قيام دمشق بكافة التزاماتها تجاه قرار مجلس الأمن رقم (2118) القاضي بتسليم كافة ترسانتها الكيمائية بين عامي 2013 - 2014، حيث تولت سفينة "ام في كيب راي" التابعة للبحرية الأمريكية تفكيكها في البحر.
دخول روسيا الاتحادية الساحة السورية عسكريا هذه المرة في نهاية أكتوبر 2015 – إلى جانب الدعم السياسي المفتوح -، عبر سلاح الجو التابع للقوات الفضائية الروسية، واستمراره حتى الآن، ومواكبة التطورات الميدانية لحظة بلحظة على هذا الصعيد، كان آخرها إرسال طائرتي (سو- 57) الأحدث في العالم، لتنفيذ مهمات قتالية، بالموازاة للتصعيد الذي رافق قرار حسم الإرهاب في الغوطة الشرقية.
رابعا - المستوى القياسي الغير مسبوق للميزانية العسكرية المعتمدة للعام الحالي، والتي وصل حجمها إلى حوالي (700) مليار دولار، والدعوة للاتجاه نحو اعتماد إستراتيجية عقيدة نووية جديدة للولايات المتحدة الأمريكية، والتي فسرها ترامب في أعقاب توقيعه مرسوم السياسة الدفاعية بقوله: "اليوم بتوقيع الميزانية الدفاعية نحن نسرع عملية استعادة القوة العسكرية للولايات المتحدة بالكامل." فهل هو إقرار بالتراجع في ميدان القوة والتسلح؟
خامسا – التطورات اللافتة في الآونة الأخيرة على صعيد الجبهة النووية الأمريكية - الكورية الشمالية، والحديث عن احتمالية لقاء رئيسي البلدين، في سبيل التوصل لاتفاق نهائي حول الأزمة النووية بين بلديهما، بعد أن ارتفعت حدة التهديدات النارية بينهما خلال الأشهر القليلة الماضية، رغم إشارة وزير الخارجية الأمريكي "المقال" ريكس تيلرسون في وقت سابق من عام 2017 إلى "أن واشنطن لديها خط اتصالات مفتوح مع بيونغ يانغ."
سادسا – خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 1 مارس الجاري، الذي ضاهى بقوته قوة منظومة الأسلحة الجديدة التي أعلن عنها في هذا الخطاب، والذي افتتح به عصرا جديدا من التفوق الردعي النوعي العالمي، عملت روسيا على ترسيخه بمنطق فرض السلام بالقوة منذ عام 2008، حين ألحقت الهزيمة بجيش جورجيا في خمسة أيام فقط، وبعدها استعادة جزيرة القرم عقب الأحداث الأوكرانية عام 2014 للاتحاد الروسي، هذا الخطاب ورغم حمولته النووية الكثيرة، فقد دعا إلى منطق الشراكة بصفته الحل الوحيد لاستقرار العالم، ولكن منطق القوة الذي طالما مارسه الأمريكي وحلفاؤه دعانا للرد بمنطق القوة عينه، أوضح ذلك الرئيس بوتين بقوله: " لم تستمعوا إلينا في الماضي القريب ولكن عليكم اليوم أن تسمعوا"، ما خلط الأوراق بوجه المحور الأمريكي – الغربي من جديد.
بالختام إن كل ما سبق ذكره من جردة لأهم المتغيرات التي طرأت على الساحة العالمية، والتي أعقبت الرغبة الأمريكية بتدمير وتطويق محور "الممانعة"، التي كانت الساحة السورية ميدانها الأساسي خلال السبع سنوات الماضية، يدفعنا لأن نخلص إلى مجموعة نتائج، أهمها:
- عودة الحرب الباردة – بحرارة دون درجة الغليان بقليل - وسباق التسلح إلى أوجه، بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، العائدة بمظلتها النووية التي تحمي أمنها القومي وامن حلفائها معها.
- انكفاء إسرائيل وتقوقعها خلف الخطين الجغرافيين (ألفا وبرافو)، الذين رسما عقب اتفاق "فصل القوات" عام 1974، مع المطالبة بعودة القوات التابعة للأمم المتحدة (UNDOF) .
- التخبط الواضح ضمن البيت الأمريكي الداخلي، الذي أفرز بالفترات الأخيرة عدة مؤشرات على ذلك، أهمها جملة التغييرات التي أقدم عليها ترامب بداية بكبير مستشاريه الاستراتيجيين ستيف بانون ومؤخرا وزير خارجيته ريكس تيلرسون الذي عين مكانه مدير وكالة المخابرات المركزية مايك بومبيو، المشهود له بالعدائية الشديدة لسوريا وإيران، وصولا لإقالة مستشاره للأمن القومي هربرت ماكماستر 16 الشهر الجاري، ولا تزال المشاورات جارية حول من يخلفه في منصبه.
- التخبط الواضح لدى حلفاء واشنطن خاصة كل من فرنسا وبريطانيا، ظهر ذلك واضحا من خلال الضجيج والفحيح الذي أثير مؤخرا حول قضية موت عميل المخابرات البريطانية السابق سكريبال، واتهام روسيا بالقيام بذلك، وكل الإجراءات التي عقبت ذلك، من اجتماع مجلس الأمن القومي البريطاني إلى لهجة التهديد والوعيد التي استخدمتها رئيسة وزرائها تيريزا ماي، وصولا لطرد (23) دبلوماسي روسي، وسلسلة من ردات الفعل الساذجة التي قادت إلى ردات فعل ساخرة على المستوى العالمي، اتجاه ما كان يعرف يوما ببيت الحنكة السياسية على المستوى العالمي.
العالم اليوم يعيش بأكمله صراع وجودي بين الحرب واللا حرب، لاشيء واضح المعالم، ازدياد حالات التخبط قد يكون نذير شؤم، يدفع الأمور لحلقة جديدة مجهولة الصراع، لا يمكن لأحد أن يضمن نتائجها، ولكن الثابت الوحيد أن العالم اليوم لن يعود لحالة التفرد والهيمنة والقطبية الواحدة التي عرفها سابقا.