محاولة استشراف: أيّ عالم بعد كورونا؟
عانى عالمنا على مرّ التاريخ جائحات وأوبئة وكوارث مدمّرة ومميتة. لعلّ أشدّها الطاعون في القرن الرابع عشر، والانفلونزا الإسبانية أواخرَ الحرب العالمية الأولى العام 1918، وتدمير مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين أواخرَ الحرب العالمية الثانية العام 1945، وتدمير برجي التجارة الدولية في نيويورك 11 أيلول/ سبتمبر 2001. لا واحدة من هذه الكوارث الكاسحة الماحقة تعادل من حيث شموليتها جائحة أو وباء كورونا في العالم الحالي 2020. فقد اجتاح كورونا العالم برمّته قارات ومحيطات وبلداناً ومدناً وقرى وأحياء ومنازل.
انطلاقاً من واقعة استمرار هذا المرض انتشاراً وحدّة وفتكاً في جميع أنحاء العالم، وتوقعاً لاندلاع أوبئة مماثلة في حدّتها وانتشارها وفتكها في المستقبل، يمكن استشراف ما يُحتمل أن يكون عليه عالمنا في ما تبقّى من القرن الحادي والعشرين والقرن المقبل على النحو الآتي:
أولاً: قانون أمميّ للكيانات
يرافق وجود الدولة المعاصرة في عالمنا نشوء كيانات داخلها أو موازية لها، كحركات التحرير الوطني ومنظمات المقاومة، تشاطرها بعض الوظائف والسلطات، وتنافسها وتسيّرها وقد تتفوّق عليها وتحلّ محلها. في موازاة هذه الظاهرة، ثمة ظاهرة أخرى سابقة لها ومعاصرة في آن هي المنظمات والوكالات والمؤسّسات الدولية المتفرّعة من هيئة الأمم المتحدة والتابعة لها كمنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة الأممية، ومنظمة الأمم المتحدة للعلم والثقافة (اونسكو)، ووكالة الطاقة الذرية وغيرها. وثمة منظمات دولية وأهلية ذات طابع أممي كمنظمة أوبك للدول المنتجة للبترول، والصليب الأحمر الدولي. إنّ تنامي وتوسّع أنشطة هذه المنظمات وتشابكها مع دول وإدارات ووكالات حكومية وأخرى أهلية وشعبية ترك آثاراً ومفاعيل وتداعيات على العلاقات الدولية وعلى أحكام القانون الدولي ما أدّى ويؤدّي الى نشوء حاجة متعاظمة الى احتواء هذه الكيانات وتنظيم العلاقات بينها وبين الدول من جهة وفي ما بينها من جهة أخرى في قانون أممي للكيانات.
ثانياً: توسيع السيادة الأمميّة وتقليص السيادة الوطنيّة
يتجه العالم بسبب تشابك العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين مختلف أطرافه الى التكوّر والتجمّع والتعاون والتنسيق ما يؤدّي الى نشوء منظمات وتحالفات ومعاهدات تضع قيوداً على سيادة الدولة الوطنية، وتشرّع أحكاماً لتوسيع السيادة الأممية لما فيه مصلحة المجتمع الأممي بصورة عامة.
ثالثاً: سلطة أمميّة للصحة العامة
في ضوء تداعيات جائحة كورونا وآثارها المميتة، واستباقاً لاندلاع جائحات مَرَضية أخرى، سيُصار الى تطوير منظمة الصحة العالمية ومنحها سلطات تنفيذية عابرة للدول وأعلى من سيادتها الوطنية ومخوّلة الاتصال والتواصل مع شعوبها.
رابعاً: سلطة أمميّة للغذاء والدواء
إزاء تنامي السكان في العالم، ومحدودية مصادر الغذاء، وتطوّر الحاجة الملحّة لمختلف صنوف الدواء، وضرورة منع احتكارها وتأمين توافرها لجميع الشعوب، سيُصار الى توحيد المنظمات والوكالات والهيئات المعنية بالزراعة والصناعة والتكنولوجيا المتصلة وظائفها بإنتاج الأغذية والأدوية في سلطة أممية عابرة للدول وسيادتها الوطنية ومخوّلة الوصول الى الشعوب والتعاطي معها مباشرةً.
خامساً: سلطة أمميّة للاتصالات والمعلومات
مع تكوّر العالم وازدياد عمليات الاتصال والتواصل بين شتى أطرافه وجماعاته وهيئاته، كما الحاجة الى تجميع المعلومات وتنظيم التشارك في الإفادة منها، سيُصار إلى بناء منظمة أممية للاتصالات والمعلومات تُعنى بشؤون هذا الحقل الاستراتيجي وتكون لها سلطة عابرة للحدود والقيود الحكومية والإثنية.
سادساً: سلطة أمميّة للمناخ والبيئة
حيال تزايد جائحات الطبيعة وأعاصيرها وزلازلها وتغيّرات المناخ والاعتداءات الكارثية على البيئة، تزداد حاجة البشرية جمعاء الى إخراج قضايا المناخ والبيئة من إطار مسؤوليات الدول ومصالح الأفراد الضيقة الى رحاب سلطة أممية تتولى شؤونها بصلاحيات واسعة عابرة للحدود الدولية والقيود القومية والثقافية لما فيه مصلحة المجتمع الأممي برمّته.
سابعاً: البيت مسكناً ومكتباً ومعملاً
مع تزايد عدد السكان، وضمور المساحات الصالحة للسكن والعمران، واتضاح مخاطر الاكتظاظ على الصحة العامة في العالم، ستتضاعف الحاجة وبالتالي الجهود من أجل بناء البيت وتكييفه ليكون، بحسب المُراد، مسكناً ومكتباً ومعملاً في آن.
ثامناً: سلطة أممية للرقابة على إنتاج السلاح واستخدامه
بعدما قاست البشرية من حروب كارثية استخدمت فيها أفتك أنواع الأسلحة من جهة، وتوخياً لمنعها وفي الأقلّ لتفادي شرورها وأضرارها من جهة أخرى، سيُصار الى إقامة سلطة أمميّة عابرة للحدود وللسيادة الوطنية، واسعة الصلاحيات للرقابة على إنتاج واستخدام جميع أنواع أسلحة الدمار الشامل، لا سيما النووية والبيولوجية والكيميائية.
تاسعاً: سلطة أمميّة للفضاء الخارجيّ
إذ تتسارع عمليات ريادة الفضاء من قِبَل دول عدّة، وتفادياً لسوء استعمال الفضاء الخارجي على نحوٍ مضرّ بالبشرية جمعاء، ستبرز حاجة متنامية الى إقامة سلطة أممية للتعاون على ريادة الفضاء، والتنسيق بين الأطراف ذات الصلة، والرقابة المتشدّدة لمنع استخدامه في إيذاء البشرية وتدمير العمران.
عاشراً: سلطة أمميّة لتجهيز كون رديف
يضيق كوننا باضطراد عن استيعاب الإنسان والعمران، وعن احتواء البشر والشجر والحجر، ما جعل الحاجة مصيرية للتفكير والتدبير معاً من أجل تجهيز كون رديف في أعالي الفضاءات أو في أعماق المحيطات. قد تبدو هذه الفكرة خياليّة، لكن لن يطول الزمن قبل أن تدرك العقول المستشرفة جدوى الحاجة الى إقامة سلطة أممية مهمتها توفير الإمكانات اللازمة لإيجاد وتجهيز وتطوير كونٍ رديف.