محاولة أميركية لاستفراد روسيا وتطويع أوروبا ومهادنة الصين... التعددية القطبية

07.12.2018

الدولة الأميركية العميقة لا تزال تعمل بإتقان على الرغم من هلوسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يعبّر عن حاجات بلاده بأسلوب رجال البورصة الذين لا يلمُّون بالأساليب الدبلوماسية ولا تثير اهتمامهم.

هذه الدولة تعرف من هم منافسو إمبراطوريتها وأين توجد مكامن الخلل فتعمل على معالجتها بالاساليب الترمبية.

يبدو أنها اكتشفت حاجة الامبراطورية الى آليات جديدة لمنافسة وتطويع القوى الأخرى، الامر الذي يتطلب وقتاً وهدنة مع منافسيها فقسمتهم الى ثلاث فئات:

أخطار استراتيجية عالمية تتجسّد في روسيا التي تعاود اجتياح الشرق الأوسط بالتدريج انطلاقاً من الميدان السوري وأهميتها كامنة في قوة عسكرية ضاربة لديها الأنواع التقليدية والنووية وأسلحة الفضاء بشكل يوازي معادلات القوة الأميركية ويزيدها في بعض الأحيان، ولديها أفقٌ مفتوح على أميركا الجنوبية وآسيا وبخلفية تحالف عميق مع الصين. للملاحظة فإن مساحة روسيا تزيد مرتين عن المساحة الأميركية وثلاث مرات ونصف المرة عن الصين. ويختزن باطنها اقل بقليل من نصف ثروات الأرض، لكنها لم تبدأ باستغلالها لخلل في العلاقات بين التقدم الصناعي البطيء ومخزون الثروات وذلك منذ الاتحاد السوفياتي.

لجهة أوروبا وخصوصاً ألمانيا وفرنسا فبلدانها سقطت في السلة الأميركية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً منذ انتصار الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية في 1945. هذا لا يعني أنها أصبحت كالدول العربية، فلا تزال دولاً صناعية وعلمية وقوية عسكرياً ولديها مداها العالمي خلف أميركا والصين واليابان، ألمانيا مثلاً استطاعت في العقد الأخير التسلق الى المرتبة العالمية الثالثة اقتصادياً ولولا الاتفاق العسكري الذي قبلت بموجبه أن لا تتسلح منذ خسارتها الحرب العالمية الثانية في 1945 لصنعت أسلحة قد تتفوّق بها على روسيا وأميركا معاً. تكفي الاشارة الى أن هناك قواعد عسكرية أميركية ترابط فيها منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية 1945.

وبذلك تمكن الأميركيون من استتباع أوروبا لنفوذهم بشكل كامل مؤسسين معها بنى عسكرية وسياسية مشتركة الحلف الاطلسي- على قاعدة العداء للاتحاد السوفياتي ولاحقاً لوريثته أوروبا الشرقية المتاخمة لموسكو.

لكن أوروبا اليوم تصطدم بمعوقات ترامبية أميركية تمنعها من الحصول على مواقع متقدمة، لكنها تعتبر أن من حقها وراثة الفراغات الناتجة عن التراجع الأميركي. لكن الصراخ الترامبي المتقاطع مع حركات تأديب تواصل ضبط أوروبا في الأسر الأميركي ولا تمنع حصول تلاسن بين ترامب ورئيس فرنسا ومستشارة المانيا بشكل حاد.

إن ترامب يعتبر أن على أوروبا دعم بلاده في وجه روسيا والصين من دون أي تأفف او تذمر لانه يحميها حسب مزاعمه، مضخماً ظاهرة الخوف من روسيا «البلد المرعب» متماثلاً بذلك مع اسلافه الذين كانوا يثيرون خوف القارة العجوز من الاتحاد السوفياتي ذي القدرات التسليحية الضخمة والعقيدة الشيوعية المناهضة لمفهوم «العالم الحر الغربي» وكانوا يثيرون ايضاً رعب العرب في الخليج والشرق الاوسط من «الإلحاد والكفر» من الشيوعية الروسية.

هناك اذاً صراع أميركي روسي مكشوف ومتصاعد الى جانب محاولات أميركية لتطويع أوروبا.

ماذا عن الصين: تمكنت بكين من اختراق الاسواق العالمية بسلع رخيصة منافسة واستفادت من إقرار نظام العولمة لاقتحام الاسواق الأميركية بطرح سلع أقبل عليها المستهلك الأميركي الشمالي والجنوبي من أبناء الطبقتين الوسطى والفقيرة فيما عجزت السلع الأميركية من اختراق أسواق الصين بسبب عجز طبقاتها عن التماهي مع أسعارها العالية قياساً لمرتباتهم الضعيفة.

إن راتب العامل الأميركي ذي الحد الأدنى للأجور يعادل عشرة اضعاف العامل الصيني وربما أكثر.

فحدث خلل هائل في العلاقات الصينية الأميركية لمصلحة بكين وهذا ما أزعج ترامب وامبراطوريته؟

اعتبر أن روسيا قوة عسكرية وليست اقتصادية، وهذا لن يؤدي مهما ساءت العلاقات معها الى اندلاع حروب بينهما لأنها مخيفة وقد تفجر الكرة الأرضية نفسها. لذلك رأت امبراطورية ترامب ضرورة إرباك روسيا في أوروبا الشرقية وشرقي سورية وإعادتها الى «حرب تسلح جديدة» قد تؤدي الى اجهاض مشاريعها التوسعية أي تماماً كما حدث للسلف السوفياتي الذي انخرط في حرب تسلّح في مرحلة الرئيس الأميركي السابق ريغان ادت الى سقوطه اقتصادياً وبالتالي سياسياً.

للإشارة فإن الاتحاد السوفياتي كان بمفرده يجابه الأميركيين والأوروبيين وأحلافهم في اليابان والخليج وأميركا الجنوبية. هذه القوى التي نظمها الأميركيون للاستفادة منها آنذاك في حروب الفضاء والتسلح.

هذا ما دفع البيت الابيض الى اتهام روسيا بالعودة الى إنتاج صواريخ نووية متوسطة المدى وقصيرة واختراق المعاهدة الموقعة بين البلدين بهذا الصدد منذ 1987.

إن المتضرر الاكبر من تدمير هذه المعاهدة هم الأوروبيون الذين هاجموا الأميركيين المصرّين على الانسحاب من المعاهدة، لأنهم يعرفون انهم الأكثر تضرراً من إلغائها، لأنهم اقرب الى الاراضي الروسية لكن واشنطن لا تأبه لصراخهم وكانت تريد من حركتها تفجير إشكالات روسية أوروبية تعاود فرض الطاعة على أوروبا لإمبراطوريتها الاقتصادية السياسية بأسلوب التخويف من روسيا.

ضمن هذا الإطار يلجأ الأميركيون الى كل الوسائل المتاحة لهم لضبط الطموح الأوروبي فيستعملون الموالاة فيها محرّضين في الوقت نفسه المعارضات مثيرين ذعرها من روسيا حيناً والصين حيناً آخر.

والهدف واضح وهو الإبقاء عليها في الحضن الأميركي.

ماذا عن الصين؟ لا تشكل خطراً عسكرياً بالنسبة إليهم، لكنها تجسد رعباً اقتصادياً. يقول المتخصّصون ان بكين قد تتجاوز الناتج الأميركي بعد أقل من عقد فقط وأهميتها انها لا تخلط سلعها بطموحات سياسية. لذلك تبدو الصين سلعة اقتصادية يختبئ خلفها صاحبها الذي يرسم ابتسامة دائمة لا تفارق مُحياه. وهذا ما يسمح للسلعة الصينية باختراق أفريقيا وآسيا والشرق الاوسط والاسواق الأميركية والأوروبية لأنها تُدغدغ إمكانات ذوي الدخل المتوسط والمنخفض.

هذا ما دفع امبراطورية ترامب الى البحث عن طرق جديدة لمهادنة الصين فوجدها في إطلاق تهديدات وحصار وعقوبات فمفاوضات على طريقة السماسرة وطلب منها بوضوح مسألتين عاجلة وآجلة: الأولى تتعلق بخفض الضرائب على البضائع الأميركية لتصحيح الميزان التجاري بين البلدين الخاسر أميركياً فوافقت بكين، لكنها لا تزال تتردّد في تلبية الطلبات الأميركية الحقيقية وهي ضرورة بناء الصين لمعامل السلع التي تبيعها في الأسواق الأميركية داخل أراضي الولايات المتحدة وذلك لتأمين وظائف لملايين الأميركيين العاطلين عن العمل فيها.

يبدو هذا العرض مغرياً لكن التدقيق فيه يكشف انه مجرد فخ… فبناء معامل صينية في أميركا يعني استعمال أدوات وعمال أميركيين تزيد من اسعارهم عن الأسعار الصينية الرخيصة بعشرات المرات، كما ان توظيف عمالة أميركية فيها يعني التسبب برفع اسعار السلع الصينية حتى توازي اسعار السلع الأميركية وربما أكثر فتسقط قيمتها التنافسية.

وهذا يعني أن الهدنة الصينية الأميركية هي خداع متبادل بين طرفين يعتمدان على شراء الوقت لاستيلاد ظروف أفضل لبناء علاقات متوازنة.

فهل تنجح سياسات إنقاذ الامبراطورية الأميركية؟

يبدو أن العالم يتجه بسرعة نحو عالم متعدد الاقطاب لن تتمكن «هلوسات» ترامب من إجهاضه لان الصين مستمرة في الهيمنة الاقتصادية على العالم، وروسيا تواصل توسيع دورها العالمي، أما أوروبا فإن عصر تحررها من الكابوس الأميركي لم يعد بعيداً فهل رأى أحدكم عربياً في هذه المعادلات؟