ماذا تخفي الترتيبات الروسية لمسار الحلّف في سورية؟
رغم اقتراب موعد مقترح الأستانة في (23/1) الجاري، إلّا أنّ الغموض مازال سيّد الموقف، فلا جدول أعمالٍ متفقٍ عليه بين الطرفين الأساسين ولا بين ضامِنيهم في ترويكا إعلان موسكو وهو شرطُ لازمُ لإنجاحه، ولا أسماءٌ مفاوضةٌ معلومةٌ ومن تمثل تحديداً هيّ أيضاً واضحة المعالم، وهو شرطٌ حكوميّ سوريّ دائم، فهل نحن أمام هيئةٍ سياسيةٍ موحدةٍ تمثل الفصائل العسكرية أم ممثلين عن كلّ فصيل بوفدٍ واحد، ولا أسقفاً زمنيةً واضحةً لمدّة التفاوض، وهل هيّ عمليةٌ تفاوضيةٌ مفتوحةٌ أم جولاتٌ على شاكلة سياق جينيف للحل أم جولةٌ واحدة، والأكثر غموضاً التراجع المعلن على صعيد التصريحات بين ما نصّت عليه اتفاقيات وقف اطلاق النار المعلنة من موسكو بشأن خارطة طريقٍ سوريةٍ للحل السياسيّ في سورية، وبين الهدف المستجد المتعلق فقط بتثبيت وقف إطلاق النار والانتقال إلى مدينة جينيف لرسم معالم هذه الخارطة، وهو خلافُ التصريحات السورية التي أبدت استعدادها "لمناقشة كلّ شيء في الأستانة".
هذه السلسة من التساؤلات الغامضة ما هيّ إلّا تفاصيلٌ في سياقٍ أكبر وأكثر غموضاً يتمثل في ثلاث تساؤلات كبرى حكمت مشهد ما قبل الأستانة انطلاقاً من إعلان موسكو (20/12/2016)، وتشكل الإجابة عليها إطاراً نظرياً يمكن معه مقاربة المشهد ما بعد مؤتمر الأستانة، السؤال الأول لماذا لم يكن اتفاق موسكو لوقف إطلاق النار تحت ولاية القرار (2268) أيّ أن يكون هذا الاتفاق لوقف إطلاق النار تطبيقاً لما اتفق عليه في نظام وقف الأعمال القتالية في (22/2/2016)، سيما أنّ بيانات وزارة الدفاع الروسية دأبت على تذكير من يهمه الأمر أنّ هذا النظام مازال ساريّ المفعول حتى بعد اتفاق موسكو (29/12/2016) الأخير، وأنّ عدد الفصائل المنضوية تحته بلغ (104) فصائل حتى تاريخ (7/1/2017)، والسؤال الثاني لماذا أُقصيّ وفد الهيئة العليا للمفاوضات المنبثق عن مؤتمر الرياض للمعارضة مع العلم أنّ القرار (2254) هو أحد المرجعيات المفترضة لمؤتمر الأستانة، وهذا القرار يلحظ بوضوح دور هذه الهيئة في تمثيلٍ واسعٍ للمعارضات المتناثرة والمتشظية رغم فشلها طبعاً بهذه المهمة-، أمّا السؤال الثالث فمع غياب رؤيةٍ متفقٍ عليها لما يسمى المرحلة الانتقالية وحالة الاستقطاب الحاد بين طرفيّ المفاوضات على هذه النقطة، يكمن التساؤل الثالث لماذا جمُع عمداً بين القرارين (2118 و 2254) كمرجعياتٍ حاكمة للتفاوض، ومع هذا الغموض والضبابية برز لدينا عدّة سلوكياتٍ قد ترسم مشهدا جديدا، أولها دعم المقاتلات الروسية لفصائل "درع الفرات" في معركة الباب وهو أمرٌ له حساباته الدقيقة مع دمشق، والتطور الثانيّ هو سحب روسيا لجزءٍ مهمٍ من قوتها البحرية قبالة السواحل السورية (6/1/2017)، والسلوك الثالث هو توقيع مذكرة منع وقوع حوادث وضمان سلامة الطيران أثناء عمليات الطرفين في البلاد، قد تثير هذه المذكرة بعض التساؤلات حول الاتفاق الروسي- التركي. هذه الاستراتيجية الروسية ليست عبثيةً أو مغامرة فقط لتحريك المياه الراكدة للحل السياسيّ في سورية بعد أن حوّلت صقور الإدارة الديمقراطية هذه التفاهمات إلى مستنقعاتٍ راكدة، بل هيّ استراتيجيةٌ روسيةٌ متكاملة المعالم للوصول إلى هدفٍ واضحٍ يتمثل في تفويت الفرصة على الإدارة الأميركية المقبلة بالانخراط العسكري في سورية تحت مسمى "الحرب على الإرهاب" بما يضع سورية على أعتاب التقسيم بمسميات "الفدرلة"، واستراتيجيةٌ روسيةٌ واضحةٌ لفرض وجهة نظرها حول مستقبل الحلّ في سورية، بما يجنّب روسيا احتمالات الأفغنة التي زرعت الولايات المتحدة بذورها عبر تزويد الفصائل المسلحة بمنظوماتٍ صاروخيةٍ محمولةٍ على الكتف ومنظومات غراد الصاروخية، حيث تنطلق الرؤية الروسية من أنّ قطار الحل السياسيّ لن ينطلق إلّا عبر مسارٍ متوازٍ مع وقف إطلاق النار، وهو أمرٌ لن يتم مع إدارة الرئيس أوباما التي فشلت في ضبط التفلت الإقليميّ وفشلت في إقناع الصقور الأميركية بجدواها، فاتجهت موسكو نحو تركيا الجهة الإقليميةالأكثر نفوذاً على الفصائل العسكرية وانتزعت منها ضماناً بوقف إطلاق النار ضمن اتفاق موسكو مستغلةً القلق التركي من السياسات الأميركية الداعمة لكرد سورية في نظام الإدارات الذاتية، وهو ما دفع موسكو إلى جعل اتفاق موسكو لوقف اطلاق النار خارج ولاية القرار(2268) لإنجاز هدفين، الأول جعل وقف اطلاق النار بعيداً عن المفخخات الأمريكية، وثانياً جر كتلة أنقرة العسكرية بعيداً عن الأهداف الأميركية التي جسّدها مؤتمر الرياض للمعارضة التي بالأصل تثير الحساسية التركية، وحتى لا تفرض كتلة أنقرة العسكرية شروطها التفاوضية على روسيا تمسكت روسيا بكتلة الـ (104) فصائل الموقعة على نظام وقف الأعمال العدائية (2016) وذات الكتلة من جينيف تكون مدخلاً مشتركاً لروسيا والولايات المتحدة للتعاون إن قررت إدارة ترامب التعاون وفق الثوابت المتفق عليها بين روسيا والولايات المتحدة، وأيّ خروجٍ عن هذه الثواب تصبح كتلة أنقرة العسكرية هي المرجَحة، أمّا إقصاء وفد الهيئة العليا للمفاوضات هو عامل جذبٍ روسيٍّ لتركيا فمن جهة هو إقصاء لأبرز نتائج مؤتمر الرياض في تبني "اللامركزية" كأساسٍ للحكم، ومن جهةٍ ثانيةٍ هو إقصاءٌ للسعودية في دورها الإقليميّ، وهذا يعني إعطاء تركيا دور الموازن الاستراتيجي في مواجهة إيران وهو ما تسعى إليه تركيا، ومن المؤكد أنّ إقصاء وفد الهيئة العليا للمفاوضات سيدفعه إلى تخفيض سقف مطالبه وشروطه التفاوضية التي بدت في الجولة الثالثة من جينيف الثالث كأنّها شروطٌ تعجيزيةٌ وعصيٌّ في العجلات، وبالتالي وجود وفدين سياسيين يمثلان طرفين إقليميين سيجعل التنازلات سيّدة المشهد المستقبلي لهذين الوفدين بدل خطاب المزاودات التي دأبت عليه هذه المعارضات منذ مؤتمر جينيف الثاني، حتى وإن تم الاتفاق على دمجمها فالأصل تمثيلهما لمصالح جهتين إقليميتين غير متفقتين، ومع هذه الوضعية ستلعب روسيا دور المرجح لهذا الطرف على ذاك سياساً كما عسكرياً.
الإجابتين السابقتين توضحان ملامح الإجابة عن التساؤل الثالث لماذا زجّت روسيا عمداً بين القرارين (2118/2254) كمرجعياتٍ للعمليات التفاوضية رغم الاستقطاب الحاصل بين الحكومة والمعارضة على تفسيراتهما، حيث استخدمت روسيا القرار (2118 وبيان جينيف الأول 2012) وسيلةً جذب وإقناع للفصائل العسكرية التي ترفض أيّ مفاوضات لا تستند إلى بيان جينيف الأول، وستاراً سياسياً على الهيئة السياسية المنبثقة عن اجتماعات أنقرة بما لا يترك لوفد الرياض أيّ مجالٍ للمزاودة السياسية تحت مسميات "ثوابت المعارضة" الأمر الذي من الممكن أن يزعزع كتلة أنقرة العسكرية ويعيد بعضها إلى كتلة جينيف، وتدرك موسكو أنّه بمجرد عقد مؤتمر الأستانة سينشأ وضعٌ إقليميٌ ودوليٌ جديدٌ تصبح معه كلّ هذه المسلمات خياراتٍ يتم التفاوض عليها لاحقاً كما وردت ونصت عليها الفقرة (4) من القرار (2254)، أيّ استبدال مصطلح "هيئة الحكم الانتقالية" بـ "حكمٍ ذي مصداقيةٍ يشمل الجميع ولا يستثني أحداً"، وحتى تصبح نتائج الأستانة ذي قيمةٍ مؤثرةٍ أعلنت روسيا سحب قوتها الضاربة البحرية قبالة المتوسط في سبيل هدفين، الهدف الأول إظهار أنّ المفاوضات الجارية في الأستانة هي سورية/سورية خالصة وليست تحت تهديد السوخوي الروسية كما دأبت معارضة الرياض على وصفها، والهدف الثاني وهو الأهم تحاول روسيا أن تجعل عملية مكافحة الإرهاب في سورية مرتبطة بالتوافق السوري/ السوري وتحت مظلته بما يفوّت الفرصة على أي طرفٍ دوليّ وإقليمي وفي مقدهم الرؤوس الحامية في الولايات المتحدة الأميركية، يريد تخريب سياق المفاوضات بداعي الانخراط بحرب ضد تنظيم "داعش" الإرهابيّ بما قد يعيد حسابات كتلتي جينيف وأنقرة العسكرية إلى نقطة البداية...فالظاهر أن إدارة الرئيس بوتين تريد كسر الجمود الذي رافق جولات جينيف الثلاثة عبر خلق سياقٍ موازٍ للحل يستند إلى ذات المرجعيات، فإن أرادت الولايات المتحدة الحل اندمج المساران المتوازيان بمسارٍ واحدٍ ومجموع قوتهما الدافعة تجنّب المسار الجديد أيّ ركود، وأمّا إن قررت الولايات المتحدة التخريب والمماطلة تكون روسيا قد أخرجت كتلةً عسكريةً مؤثرةً من الحسابات الأميركية، وربما تصبح ذات الكتلة رأس حربة ضد أهداف الولايات المتحدة في فرض المشروع الكرديّ كأمر واقع .