ما بين بوتين والأسد أقوى من "بازارات" السياسة…!
كثر أخيراً الكثير من الكلام وفيه الغث والسمين عن خلافات في الرؤى بين روسيا بوتين وسورية الأسد، وذهب كثيرون من دون علم ولا مسؤولية عن نية مزعومة لدى القيادة الروسية بالضغط باتجاه تغيير القيادة في سورية أو ما سمّوه تغيير الرئيس بشار الأسد، وهو ادّعاء لا يصحّ إلا مع مرضى النفوس ممن ينطبق عليهم المثل الإيراني الشهير:
«الكافر يقيس الناس على معتقده…»!
ظناً منهم أنّ كلّ عالم السياسة هو كعلاقتهم الذئبية مع سيدهم الأميركي…!
صحيح أن التاريخ ليس وحده من يعطي العلاقات السورية الروسية الحاليّة، ذات الطبيعة الاستراتيجية المتينة طبيعتها، وإنما الاقتصاد والسياسة والأمن والضرورات العسكرية للطرفين. وهذا يعني أن العلاقات الحاليّة مبنيّة على أسس القانون الدولي الشديدة الوضوح، في تنظيم العلاقات بين الدول، وكذلك الأمر فهي مبنية على المصالح المتبادلة للطرفين.
ومن نافل القول أيضاً أنّ هذه العلاقات، التي تزداد ترسّخاً في الوقت الحاضر، ليست علاقات جديدة، بل هي موجودة منذ استقلال سورية عن الاستعمار الفرنسي، منتصف أربعينيات القرن العشرين. وتعمّقت هذه العلاقات بعد توقيع اتفاقية التعاون المشترك بين البلدين، سنة 1955، والتي أثارت حفيظة القوى الاستعمارية الدولية يومها وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي اتهمت سورية بأنها تجنح لأن تصبح دولة شيوعية مرتبطة بالاتحاد السوفياتي وقاعدة لتوسيع نفوذه في المنطقة…!
وقد قامت تلك القوى الاستعماريّة بمحاولة فاشلة لتطويق سورية ووقف تعاونها مع الاتحاد السوفياتي، وذلك من خلال العمل على إنشاء حلف عسكري معادٍ للاتحاد السوفياتيّ، أُطلق عليه اسم حلف بغداد، بحيث يضمّ العراق الملكيّ والأردن وتركيا وبريطانيا والولايات المتحدة. وقد رفضت سورية ومصر عبد الناصر هذا الملف العدواني العسكري وقاومته بكلّ الوسائل حتى أسقطته وتمّ دفنه بعد عدوان 1956 على مصر وتكريس الدور السوفياتي في «الشرق الاوسط»، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
ولكن المحاولات الاستعمارية الأوروبية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية بعد العدوان الثلاثي، لإسقاط سورية ومنعها من تمتين علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي، قد استمرّت وتمّ تصعيدها عبر ما أطلق عليه: «مبدأ آيزنهاور»، الذي اعلن عنه الرئيس الأميركي آنذاك، أيزنهاور، في رسالة أرسلها إلى الكونغرس الأميركي، وجاء فيها أن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم المساعدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لأيّ دولة في «الشرق الاوسط» تطلب ذلك.
ولم يمضِ وقت طويل حتى طلبت الإدارة الأميركية، من عضو الناتو تركيا، بالبدء بالتحرّش بسورية عسكرياً. وبالفعل بدأت تركيا بحشد الآلاف من جنودها على الحدود السورية… وقد بلغ التوتر ذروته في 18/8/1957 إثر تعيينات وتغييرات أجراها الرئيس السوري شكري القوتلي على قيادات الجيش السوري، اعتبرتها الولايات المتحدة انقلاباً شيوعياً نقل سورية الى المعسكر السوفياتي. وهو ما دفع تركيا (الناتو) إلى دقّ طبول الحرب ضد سورية. إلا انّ تهديد الزعيم السوفياتي، نيكيتا خروتشوف، بقصف تركيا بالصواريخ إن هي اعتدت على سورية، الأمر الذي دفع المعسكر الغربي بالتراجع عن نيات العدوان وسحب تركيا حشودها عن الحدود السورية وإنهاء الأزمة في شهر 10/1957. وبهذا يكون مبدأ أيزنهاور هو الآخر قد سقط تماماً وانتهت أحلام الولايات المتحدة بالسيطرة على سورية، بحجة التصدي لتمدّد النفوذ السوفياتي في «الشرق الأوسط».
وكما كانت خطط العدوان الاستعماري الأوروأميركي ضدّ سورية، في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، متواصلة ضدّ سورية والدول العربية الأخرى المعادية للاستعمار، إلا أنها وفِي جزء كبير منها كانت تستهدف المصالح السوفياتيّة، ومن ثم الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، في المنطقة والعالم، وذلك عبر تكريس سيطرة الولايات المتحدة على بحار وأسواق العالم. وكان للسيطرة على البحر المتوسط، من قبل الأساطيل الأميركية، أهمية مزدوجة خدمة للمصالح الأمنية العسكرية والاقتصادية لكلّ من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
ولا بدّ هنا من العودة بالذاكرة الى السياسات الأميركيّة، المعادية لسورية، منذ بداية القرن الحالي، وصولاً الى اغتيال الحريري في لبنان واستصدار القرار 1559 من مجلس الأمن وإرغام الجيش السوريّ على الانسحاب من لبنان وافتعال أزمة دولية لحصار وتدمير سورية، بعد اتهامها زوراً باغتيال الحريري. ولكن فشل هذه الحملة وصمود سورية قد دفع قوى العدوان الاستعماريّ الى إشعال حرب 2006 ضدّ لبنان، أملاً من واشنطن في تحقيق الهدف بإخضاع سورية وإنهاء دورها، المتمثل في كونها خط الدفاع الأول عن القضايا العربية، وفي مقدمتها قضية فلسطين، وكذلك لكونها قلعة أمام السيطرة الأميركية على المنطقة.
أما عن علاقة كلّ هذا مع طبيعة العلاقات السورية الروسية واكتسابها صفة العلاقات الاستراتيجية، فلا بدّ من توضيح بعض النقاط، لإظهار حقيقة العلاقة الجدلية، بين المصلحة الروسية وتلك السورية في التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي، والتطور والنمو اللذين شهدته هذه العلاقات، منذ بدء الحرب الكونية العدوانية على سورية، سنة 2011. وأهم هذه النقاط هي التالية:
1 ـ اتفاقية التعاون المشترك، بين سورية والاتحاد السوفياتي، الموقعة سنة 1971، والتي شكلت قاعدة تعاون صلبة، على مختلف الصعد وبينها الصعيد العسكري، حيث حصل الاتحاد السوفياتي آنذاك على نقطة ارتكاز بحرية لأسطوله، الذي يقوم بمهمات الدوام القتالي في البحر الأبيض المتوسط.
ورغم تعثر عمليات الاسطول الروسي لبضع سنوات، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1991، الا ان بداية الالفية الحاليّة قد أعادت الحياة الى هذا الوجود البحري الروسي في المتوسط. وهو الوجود الذي يعتبر، من وجهة نظرنا، القوة الروسية التي تتواجد على خط الدفاع الأول عن أسوار موسكو، حتى قبل بدء العدوان على سورية. وليس علينا إلا أن نتذكر، بأن الاساطيل الأميركية والبريطانية والفرنسية والايطالية، التي شاركت في حروب التدخل، التي بدأتها البحرية البريطانية، في شهر حزيران سنة 1918، عندما نفذت عملية إنزال بحري على ميناء مورمانسك Murmansk في المحيط المتجمّد الشمالي، وسيطرت عليه، نقول إنّ هذه الأساطيل قد تحركت للهجوم على روسيا من البحر المتوسط الى مضائق البوسفور والدردنيل وصولاً الى البحر الأسود، جنوب روسيا، حيث وصلت الأساطيل الفرنسية والبريطانية واليونانية والايطالية الى ميناء اوديسا (حالياً في أوكرانيا)، بالإضافة الى قوة بحرية أميركية، قوامها 8000 من عناصر المارينز، قد تم إنزالها على سواحل ڤلاديڤوستوك، في أقصى الجنوب الشرق الروسي، وبدأت جميع هذه القوات، ومن خلال عمليات منسقة، بمهاجمة الأراضي الروسية… ولكنهم فشلوا في اختراق الأراضي الروسية واحتلال أجزاء منها.
2 ـ كما أنّ اتفاقية التعاون السورية الروسية، المذكورة أعلاه، قد شكلت أرضية لقيام وزارة الدفاع السوفياتية بتعزيز الوجود العسكري السوفياتي في طرطوس، بعد أن قرّر السادات يوم 8/7/1972 الاستغناء عن خدمات المستشارين العسكريين السوفيات في مصر، وهو الأمر الذي وصفه الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف بأنه أكبر هدية للولايات المتحدة من دون ثمن.
الى جانب ذلك فقد شكلت هذه الاتفاقية القاعدة التي قام بموجبها الاتحاد السوفياتي بتسيير 900 رحلة جوية، لطيران النقل العسكري، لنقل 15000 طن من المعدات العسكرية للجيش السوري، بعد حرب تشرين 1973، وذلك لتعويض الخسائر التي لحقت بقوات الجيش. كما تمت إقامة جسر بحري بين روسيا واللاذقية للغرض نفسه.
ولا بدّ، في هذا الصدد، من التأكيد على ان الاتحاد السوفياتي لم يكن ليقوم بكلّ تلك العمليات، التي اعتبرها استثماراً استراتيجياً في علاقاته مع سورية، لم يكن ليقوم بذلك لو لم يكن على قناعة بأنّ الدور السوري في التصدّي لمحاولات الهيمنة الأميركية في العالم هو دور أساسي.
3 ـ وقد تأكد هذا التقدير السوفياتي العميق، للدور السوري، سنة 2010، عندما حصل الهجوم الدبلوماسي الاقتصادي الأميركي الأوروبي التركي الخليجي على روسيا الاتحادية، وذلك عندما قام الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، بترتيب قمة رباعية في دمشق، ضمّت إلى جانبه الرئيس بشار الأسد ورئيس الوزراء التركي، رجب طيب ردوغان، والذي لم يكن رئيساً لتركيا بعد، وأمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.
وقد عقدت هذه القمة في دمشق، بتاريخ 27/5/2010، حيث عرض هؤلاء على الرئيس الأسد ما يلي:
أ ـ عرض الفرنسي العمل على إعادة دمج سورية في المجتمع الدولي وتقديم مساعدات اقتصادية أوروبية لها.
ب ـ أما أردوغان فقد عرض الضغط على «إسرائيل»، حيث كان يعمل وسيطاً في المحادثات غير المباشرة بين سورية والكيان الصهيوني، عرض تكثيف الضغط على «إسرائيل» للوصول الى حلّ لمشكلة الجولان المحتلّ.
ج ـ أما أمير قطر فقد عرض على الرئيس السوري تمويلات وقروض تصل الى 150 مليار دولار.
وذلك في مقابل موافقته على:
بناء خط أنابيب لنقل الغاز من جمهوريات آسيا الوسطى، السوفياتية سابقاً أذربيجان وتركمانستان، وإيران بعد إسقاط الحكم فيها، الى جانب الغاز القطري، ومن العراق أيضاً الذي كان لا زال تحت الاحتلال الأميركي، بحيث يمرّ هذا الخط من شمال شرق سورية ليصل الأراضي التركية ويتابع مسيره من هناك عبر بلغاريا… رومانيا المجر وصولاً الى النمسا، حيث ستقام محطة توزيع لهذا الغاز لكلّ أنحاء أوروبا. وقد سمّي هذا المشروع في حينه: خط غاز نابوكو Nabucco وهو مشروع كان يحظى بدعم أميركي أوروبي كامل وبدأ التحضير لإقامته سنة 2002، بينما تم التوقيع على الاتفاق الخاص بالتنفيذ، من قبل كل من: تركيا/ رومانيا/ بلغاريا/ المجر/ النمسا/ بتاريخ 13/7/2009. وذلك لمنافسة روسيا، أو بالأحرى لضرب الصادرات الروسية من الغاز الى أوروبا، خاصة أنّ روسيا كانت تخطط لإقامة خط أنابيب لتصدير الغاز، من جنوب روسيا إلى أوروبا، اسمه ساوث ستريم South Stream، الذي استبدلته روسيا بخط آخر اطلقت علية اسم تورك ستريم Turk Stream، وتمّ افتتاحه قبل أشهر.
ـ تجميد علاقات سورية مع إيران.
ـ وقف دعم حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.
ومن المعلوم طبعاً انّ الرئيس بشار الأسد قد رفض رفضاً قاطعاً تلبية أيّ من هذه الشروط. وربما يكون مفهوم لدى الكثيرين رفض الرئيس الأسد قطع علاقاته مع إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية، ولكن ما قد يصعب فهمه على الكثيرين هو أسباب رفض الرئيس الأسد، وبشكل قاطع، الموافقة على مشروع خطوط الغاز.
ولكن السياق التاريخي للعلاقات الروسية السورية، الذي عرض أعلاه، لا بدّ انّ يساعد في فهم خلفيات وموجبات هذا الموقف السوري الصلب، وبالتالي الموقف الروسي الداعم عسكرياً للرئيس الأسد منذ عام 2015. إذ إنّ صانع القرار السوري يعلم تماماً ان موضوع خط الغاز المذكور لم يكن مشروعاً تجارياً عادياً وإنما كان مخططاً استراتيجياً أميركياً يرمي الى إخراج روسيا من أسواق الغاز الأوروبية، وإلحاق أكبر الأضرار باقتصادها بهدف شل قدرتها على مواصلة عمليات التحديث والتنمية والتطوير للدولة الروسية بشكل عام وللقوات المسلحة الروسية بشكل خاص.
من هنا، ومن منطلق الوفاء للصديق الصدوق، الاتحاد السوفياتي السابق ووريثته القانونية الحاليّة، جمهورية روسيا الاتحادية، فإنّ الرئيس الأسد، وبالاستناد الى الأخلاق السياسية العليا التي يتمتع بها، فقد قرّر أن يقيم خط صدّ عن موسكو لعلمه، المبني على تحليل دقيق للأبعاد الاستراتيجية لخطوته تلك، وذلك لأنّ التآمر على مصالح روسيا كان سيُمَكِّن دول الاستعمار الغربي بإلحاق أضرار كبيرة بروسيا وبسورية تتابعاً ونتيجة لذلك. وهو ما جعل الولايات المتحدة وأذنابها، من صهاينة وأعراب وعثمانيين جدد ودول أوروبية مُستَعْمَرَةٍ من قبل الولايات المتحدة تلجأ الى الخطة البديلة، ألا وهي تدمير سورية وتفكيكها كدولة، أملاً منها في تدمير خط الدفاع الأمامي عن موسكو. ولكن الصمود الأسطوري للشعب السوري وجيشه ورئيسه وتزايد الخطر على كيان الدولة السورية وما بدأ يلوح في الأفق محدودية قدرة الدولة السورية على مواصلة الحفاظ على حصونها على شواطئ المياه الدافئة، ونظراً للأهمية الاستراتيجية الفائقة لهذه المياه، فقد قرّرت القيادة الروسية التدخل مباشرة وبالقوة العسكرية اللازمة، لدعم صمود الحصون السورية.
وقد مثَّل هذا القرار تحركاً استراتيجياً قلب موازين القوى الدولية، خاصة أنّ سورية وروسيا قد اتفقتا، بعد التدخل العسكري الروسي، على تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، على قاعدة اتفاقيات قانونية ورسمية طويلة المدى، تم بموجبها ليس إقامة قاعدة حميميم الجوية وطرطوس البحرية، فحسب وانما إيجاد الاطار القانوني اللازم لذلك، حسب الأصول والقوانين الدولية، خدمة للمصلحة الاستراتيجية للدولتين.
من هنا فإنّ العلاقات السورية الروسية ليست علاقات قائمة على الانتهازية او التسلط او الاستغلال، وانما هي استمرار لنهج من التعاون المثمر الذي يخدم المصالح الاستراتيجية المشتركة للبلدين.
وهي بالتالي ليست علاقات خاضعة لمزاج البازارات السياسية ولا لقوانين السيطرة والهيمنة، التي تمارسها الولايات المتحدة مع أذنابها في العالم، وانما هي علاقات متكافئة تعكس مستوى عميقاً جداً من الفهم والتحليل السياسي العلمي والموضوعي الذي هو أساس كل قرارٍ صائب.
وهذا هو السر الذي يقف وراء متانة هذه العلاقات واستحالة تعرضها للخلل بسهولة عند أول تباينات في قراءة هذا الحدث او ذاك من وقائع السياسة اليومية وتحولاتها الموسمية…!