التوازن الفعلي الجديد بعد التوتر الروسي الإسرائيلي
صرّ بعض المتذاكين على التنمّر باقتطاع فقرات من البيان الروسي الذي حمّل «إسرائيل» مسؤولية سقوط الطائرة الروسية، لتغطية القضية الحقيقية التي تقع بين أيدينا، وهي إعلان موسكو الأول من نوعه منذ نشأة كيان الاحتلال باعتباره مصدراً لتهديد أمن القوات الروسية. وبالرغم من أن سياق الكلام الروسي عن إجراءات الاطمئنان التي قدمتها موسكو لتل أبيب كان واضحاً، وهو الاستنتاج بان تل أبيب معتدية وناكرة للجميل، وبالتالي روسيا قامت بأقصى ما يمكن القيام به لتفادي أزمة ولا بديل أمامها إلا لتفسير مبني على سوء النية الإسرائيلية، واعتبار التفاهمات السابقة بحكم الساقطة. أما الفقرات التي يتلهى بها الإعلام الخليجي ومَن يريدون التنمر، فهي الإشارة الروسية إلى إبعاد القوات الإيرانية إلى ما وراء مئة وأربعين كليومتراً من حدود الجولان، والحصول على تعهّد إيراني بعدم القيام بأي عمل يستهدف «إسرائيل».
معلوم لدى الجميع أن إيران تؤكد كل يوم كما حزب الله وقوى المقاومة، أنهم موجودون في سورية لمؤازرة الدولة السورية في حربها على الإرهاب، ولاسترداد سيادتها على أراضيها، وليست لديهم روزنامة خاصة يعملون عليها تتخطّى حدود ما تريده القيادة السورية، وهم جاهزون للانسحاب عندما تريد منهم القيادة السورية ذلك. ومعلوم بالمقابل أن تماسك الحلف بين روسيا وسورية وإيران أولوية للنصر في معركة استرداد سورية لسيطرتها على كامل جغرافيتها، والمعلوم أيضاً أن قضية أميركا و«إسرائيل» الأساسية كانت ولا تزال عرقلة هذا النصر. وأن حلف المقاومة منح روسيا صلاحية إدارة المعركة الدبلوماسية لبلوغ هذا النصر. ومعلوم أيضاً وأيضاً أن أميركا و«إسرائيل» تعرفان أن ما بعد هذا النصر كل شيء سيتغيّر. وأن الحديث عن عدم وجود نيات لاستهداف «إسرائيل» وإبعاد القوات الإيرانية، لا يعنيان شيئاً في مفهوم الأمن الاستراتيجي لـ«إسرائيل»، فمن يبتعد اليوم يعُد غداً، ومَن يبتعد يملك من الصواريخ ما لا يجعله بحاجة للاقتراب. والنيات الفعلية لخيارات محور المقاومة لا تحتاج لرسائل دبلوماسية لتبديد القلق من قوة هذا المحور، لكن الأهم أن المعركة دبلوماسياً كانت تدور تحت عنوان أميركي إسرائيلي هو إخراج إيران وحزب الله من سورية كثمن للتسليم بنصر سوري روسي في سورية والتعايش معه وتمويل الإعمار وقبول حل سياسي بشروط سورية روسية. وأن الرد الروسي كان بالرفض والتمسك بحماية بقاء إيران وحزب الله وقوى المقاومة كضرورة للفوز في الحرب على الإرهاب مرة، وبالقول إن هذا أمر سيادي سوري مرات.
القضية الآن بالتأكيد لم تعُد أين يتمركز الإيرانيون أو حزب الله، ولا طبيعة الرسائل الدبلوماسية الروسية المطمئنة لـ«إسرائيل». فالقضية الراهنة تقول إن إيران وقوى المقاومة أدارت بصورة مبدعة علاقتها بروسيا في سورية وصولاً للحظة صدام روسية إسرائيلية، صنعتها الغطرسة الإسرائيلية وتكفلت بفعل ما كانت قيادة محور المقاومة تتوقع بحدوثه، وصبرت وتحملت الكثير بانتظار حدوثه. فالتصادم الروسي الإسرائيلي رغم أنوف المتنمرين يكبر ولا يصغر، وهو تصادم استراتيجي كان حتمي الحدوث، وعنوانه لمَن اليد العليا في السماء السورية. وكانت الجغرافيا السورية على موعد مع سباق بين صدامين، صدام روسي مع قوى المقاومة وإيران أم صدام روسي إسرائيلي. والعنوان هو ضوابط معركة النصر في استرداد السيادة السورية والنصر على الإرهاب. ونجح التعامل الإيراني السوري مع روسيا في إدارة هذه الضوابط بتجنّب الصدام، بينما وقعت «إسرائيل» في فخه. وها هو يقع، والصدام الاستراتيجي مفتوح اليوم، ويصعب التراجع فيه، ولذلك يصير تحولاً جيواستراتيجياً يعادل بأهميته أهمية النصر المنتظر لسورية، مثله مثل السباق الآخر الذي فاز به محور المقاومة حول تركيا.
لا طريق رجعة لتركيا نحو محور الحرب على سورية، ولا طريق رجعة لـ«إسرائيل» نحو اللعب المفتوح في ما تبقى أمامها من هوامش في الأجواء السورية بعد إسقاط الدفاعات الجوية السورية طائرة الـ«إف 16». والأمور إلى المزيد من الضيق، بحيث على «إسرائيل» الاختيار بين التراجع، وبالتالي تمكن سورية وقوى المقاومة من بناء منظوماتها في فترة التراجع الإسرائيلية، والمرشحة أن تطول إذا كانت هي الخيار الإسرائيلي، أو المضي في الاستفزاز لروسيا الغاضبة منعاً لاستفادة قوى المقاومة من التراجع، فيزداد التوتر، وتنال قوى المقاومة المزيد من فرص الاشتباك والمزيد من فرص الحصول على سلاح نوعي، من دون تعريض علاقتها بروسيا للخطر.
– ها هو الـ«أس 300» يدقّ الباب!