التحول الاستراتيجي الأمريكي في إطار نزاع محتمل في بحر الصين
من ضمن استنتاجات وتقييم خبراء عسكريين يعملون بخدمة البنتاغون أن تقنية الأسلحة الفرط صوتية، لدى الصين وروسيا، تجعل نظم الدفاع الصاروخية الأميركية معدومة الفائدة على الأغلب.
وحظ مؤخراً إقدام فروع القوات المسلحة الأميركية على إجراء مناورات عسكرية مكثفة تحاكي بشكل خاص إمكانية الاشتباك في بحر الصين الجنوبي، كان آخرها مناورات نفذها سلاح البحرية والمارينز.
رغم التركيز الإعلامي، الأميركي والدولي، حول المخاطر والتهديدات بنشوب حرب إقليمية في منطقة الخليج أو الشرق الأوسط عموماً، وخاصة مع استمرار حالة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران إثر انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، يمضي الرئيس دونالد ترامب في إصراره على التذكير بضرورة الانسحاب العسكري من المنطقة وفي الوقت عينه إرساله قوات محدودة للسعودية أو تموضع بعض القوات في الأراضي السورية.
تتلاقى رغبة ترامب مع توجهات ودعوات عالية النبرة من داخل أجنحة المؤسسة الحاكمة بضرورة التحول شرقاً وجنوباً في الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة. تم الترويج لهذه التوجهات في عهد أوباما ويُعاد التركيز على الاستعداد للمواجهة الاستراتيجية مع روسيا والصين في كل الوثائق المهمة التي صدرت عن الإدارة الحالية والمتعلقة بالأمن القومي الأميركي.
في مثل هذه الأيام من شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 2014، استندت البنتاغون في بلورة توجهاتها إلى وثيقة مطولة أطلقت عليها "الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة" أعدتها جامعة الدفاع الوطنية،" مؤكّدة فيها على العناصر والمكونات الأساسية للرؤى الاستراتيجية والتي "حافظت على تماسكها على مر العقود، وأبرزها تجديد التأكيد على "مبدأ (الرئيس) مونرو" بتشريع التدخل العسكري في شؤون الدول الأخرى، وخاصة في أميركا الجنوبية والوسطى.
أُدخل عليها تباعاً تعديلات تخص التحولات الإقليمية والدولية والابتكارات التقنية والمؤسسات الملحقة بها (معتمدة) مبدأ الحرب الكونية على الإرهاب، ونشر الديموقراطية، والسيطرة على منابع وتصدير الطاقة إضافة إلى عناوين مماثلة، لتجد الآلة العسكرية نفسها منهكة عقب سلسلة حروب شنتها منذ عقدين من الزمن وما زالت مشتعلة، ما أسهم أيضاً في مراجعة مراكز القرار الأساسية لبعض الاستراتيجيات المعتمدة.
تدهور النزعة القتالية الأميركية حذر منه وزير الدفاع السابق، جيمس ماتيس، في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، نيسان/ أبريل 2018، قائلاً إن "التداعيات السلبية على الجاهزية العسكرية مصدرها الانخراط في أطول مرحلة متواصلة من المعارك في تاريخ البلاد، أسفر عنها بنية عسكرية تمددت فوق طاقتها بموارد أقل مما تقتضيه المواجهات".
يشكو بعض العسكريين من الأعباء الإضافية المُلقاة على عاتق القوات الأميركية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم. قائد سرب القوات البرمائية، لانس ليشر، أوضح في ندوة استضافها معهد سلاح البحرية الأميركية، منتصف الشهر الحالي، حجم المعاناة بأن قواته "ترابط في مياه الخليج العربي منذ زمن بعيد.. الآن وفي ظل تنافس القوى العظمى، فإن مهمتنا لا تقتصر على مسرح عمليات بحد ذاته؛ بل إننا نتوجه للانتشار في أي مكان في العالم وعلينا تنفيذ كل تلك المهام." تقارير ضباط الاستخبارات المتعددة أشارت إلى "تبديد الولايات المتحدة لموارها على مكافحة المقاومات المحلية في أفغانستان والعراق عبر عقود من الزمن، بينما مضى خصوم واشنطن في تعزيز وتطوير ترساناتهم العسكرية المختلفة بكلفة أقل وعلى رأسهم الصين وروسيا وإيران، التي استغلت بمجموعها مواطن الضعف الكامنة في سلاح البحرية الأميركي "وشرعت في إنتاج تقنية صاروخية أسرع من الصوت."
خصوم الولايات المتحدة، وفق شهادة وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس، قد "استغلوا تلك المدة (انشغال واشنطن في الحروب) للاستثمار في تنمية القدرات العسكرية الهادفة إلى تطويق التفوق الأميركي في تقنية الأسلحة المتطورة"، من ضمنها تقنية الشبح.
في هذا المجال حذّر خبراء الأمن القومي الأميركي من تخلف التقنية الأميركية في القرن الحالي. هذا التخوف عكسه عنوان لافت في أسبوعية فورين بوليسي "سلاح البحرية الأميركية غير جاهز لمواجهة إيران".
في معرض تناولها لطبيعة الرد الأميركي على إسقاط طهران لأحدث طائرات الدرونز التابعة للبنتاغون فوق مياه الخليج. (30 أيلول/ سبتمبر 2019).
وأضافت المجلة أن واشنطن كانت على مستوى عالٍ من الثقة في المراحل السابقة من خلال اعتمادها لعقود طويلة على "تفوقها في سلاح الجو والتحكم في مياه البحار.. اكتفت بإرسال حاملات طائرات أو فرقاطات على متنها صواريخ كروز إلى أي منطقة نزاع محققة إنجازات عاجلة من دون أن تضطر إلى إطلاق حممها".
بينما الآن، وفق التقرير أعلاه، فإن "قدرة الولايات المتحدة على استعراض قوتها في مياه الخليج ليست بالقدر الذي اعتادت عليه في السابق."
يُشار أيضاً في هذا الصدد إلى أطروحة ضابط سلاح حرس الشواطئ الروسي السابق، والمقيم في الولايات المتحدة، أندريه مارتيانوف، في كتابه بعنوان "الثورة الحقيقية في الشؤون العسكرية (أيلول/ سبتمبر 2019)، بأنها تكمن في "تطوير روسيا لنظم أسلحة جديدة ليس بوسع الولايات المتحدة التغلب عليها فحسب بل لا يتوفر لديها منظومات بديلة."
ويستنتج الكاتب الذي ينقل عنه نظراؤه الأميركيون بأن "تداعيات الثورة العسكرية (الروسية) أدت إلى خسارة الولايات المتحدة تفوقها الجيو- سياسي وإعادة ترتيب العالم وفق نظام تعدد القطبية."
من بين نواقص الترسانة البحرية الأميركية نجاح كل من الصين وروسيا في تطوير "سلاح غواصات جديد يعمل بمحركات ديزل لا تصدر ضجيجاً، وتقدم في الألغام البحرية وتقنية متطورة لزوارق الطوربيد، ما أسفر عن تعقيد المهام أمام حاملات الطائرات الأميركية التي لم تعد تتمتع بخاصية التحصين من الاستهداف المعادي."
والسلاح الأقوى لدى روسيا والصين هو "قاتل حاملات الطائرات"، وهو عبارة عن صاروخ مضاد للسفن من طرازDF-21 يبلغ مداه 1،000 ميل "وبهذا يتفوق على أي مدى للطائرات المقاتلة على متن الحاملات" الأميركية الحديثة، فضلاً عن سرعته الفرط صوتية.
حرصت الصين على إبراز أحدث ما لديها في عرضها العسكري لمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس الجمهورية، كان أبرزها الجيل الثالث من الصاروخ المشار إليه، DF-41، أشركت نحو 16 صاروخاً في العرض، وهو منظومة محمولة يبلغ مداه 15،000 كلم، أي 9،400 ميلاً، باستطاعته حمل وإطلاق 10 رؤوس حربية موجهة لعدة أهداف في آن واحد.
تقييم الخبراء العسكريين لدى البنتاغون يشير إلى أن أبرز مزايا ذلك الصاروخ المحمول هو الفترة الزمنية القصيرة التي يحتاجها للإعداد والانطلاق نحو الهدف وسيكون صعباً اعتراضه وهو جاثم على الأرض، بل إن معظم نظم الأسلحة المشاركة في العرض العسكري كانت من النوع المحمول على عربات، وفي حال نشوب نزاع يتعين على سلاح البحرية الأميركية إخلاء المنطقة بالكامل، أي بحر الصين الجنوبي.
من ضمن استنتاجات أولئك الخبراء أن تقنية الأسلحة الفرط صوتية، لدى الصين وروسيا، تجعل "نظم الدفاع الصاروخية (الأميركية) معدومة الفائدة على الأغلب." استند ذلك الاستنتاج إلى نجاح إصابة منشآت أرامكو في السعودية، 14 أيلول/ سبتمبر الماضي، واكتشاف "السعودية بأن الترسانة الأميركية لا تضم منظومة للدفاعات الجوية قادرة على التصدي للصواريخ الباليستية وطائرات الدرونز."
ورد في التقرير السنوي المقدم من وزير الدفاع للكونغرس حول قوات الصين العسكرية، 2 أيار/ مايو 2019، أن قادة الصين استفادوا من الفرصة الاستراتيجية في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين لتطوير الداخل ونشر مفهوم القوة الوطنية الشاملة للصين، والاستثمار في تحديث ترسانتها العسكرية وتطوير التعليم والقوى البشرية وتوظيفها في البنى التحتية طمعاً في الوصول إلى مرحلة التفوق الإقليمي والبناء عليها لبسط نفوذها على المستوى العالمي.
بالتوازي مع تقرير وزير الدفاع حول الصين، ارتفع منسوب مطالبة العسكريين وأنصارهم في الكونغرس بزيادة حجم الإنفاقات العسكرية وتصويب الثقل العسكري للأمن القومي الأميركي عبر اعتماد سردية أنه لم يبقَ للولايات المتحدة من خيار سوى "إعادة تنظيم القوات المسلحة وتوجيهها للدخول في مرحلة منافسة بين الدول العظمى.. إنها منافسة استراتيجية طويلة الأجل."
كذلك أشارت وثيقة البنتاغون المحورية "استراتيجية الدفاع الوطنية للولايات المتحدة، 2018"، إلى طبيعة الصراع الدولي بين القوى العظمى باعتباره أن "ردع أو إلحاق الهزيمة بدول عظمى معتدية يختلف بطبيعته بشكل كبير عن تحديات المواجهات الإقليمية التي تضم دولاً مارقة ومنظمات متطرفة تستخدم العنف والتي واجهناها عبر 25 سنة مضت."
معدل إنفاق الولايات المتحدة اليومي على الشؤون العسكرية يبلغ 2.75 مليار دولار، وفق بنود الميزانية الدفاعية لعام 2020، وذلك عند احتساب ميزانيات البنود الأخرى الملحقة بها مثل "وزارة الأمن الداخلي، 52 ملياراً؛ ميزانية الطوارئ الخارجية، 26 ملياراً) بحسب ما أفادت به الميزانية المقدمة في شهر نيسان/ أبريل من العام الحالي، والتي يبلغ مجموعها الإجمالي 989 مليار دولار، يشكل بند البنتاغون المعلن 576 ملياراً لشراء وتطوير حاملات طائرات وأسلحة مختلفة.
واكب تلك الزيادات غير المسبوقة استثمارات بحجم القوات الخاصة، ولا سيما في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وإمدادها بنظم تسليح خفيفة لتنفيذ مهام التدخل السريع. بيد أن عديدها الذي يقدر ببضعة آلاف لا يستطيع الصمود أمام "مئات الآلاف من القوات الروسية أو الصينية"، فضلاً عن أن أحدث العربات العسكرية المدرعة المضادة للألغام من طراز "سترايكر"، المستخدمة بكثرة في أفغانستان، غير فعالة أمام الأسلحة الرشاشة الحديثة للخصوم الروس والصينيين، كما أثبتت تجارب أفغانستان.
يتضح مما تقدم أن بوصلة التحرك العسكري الأميركي هي باتجاه السيطرة أو الاشتباك في بحر الصين الجنوبي، مع تذكير بعض قادة البنتاغون بتقنية الصين المتطورة، ولا سيما الفرق صوتية، ما "يحيل منظومات الدفاع الجوي الأميركية على متن السفن الحربية إلى معدومة الفعالية".
للتعويض عن ذلك، منح سلاح القوات البرية الأميركية، مطلع شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، مجموعتين مستقلتين من الصناعات العسكرية عقداً لتطوير صواريخ فرط صوتية هدفها "اللحاق بالتفوق الروسي والصيني، وسط تحذيرات خبراء نظم الصواريخ من أن إطلاق روسيا أو الصين لذلك السلاح فائق السرعة من على غواصة يستغرق مدة لا تتعدى 60 ثانية لتصل إلى البيت الأبيض أو البنتاغون؛ وذلك بحسب مدى اقتراب الغواصات من الأهداف الأميركية.
وتستطيع الصين بصاروخها الجديد المتطور أن تستهدف أراضي الولايات المتحدة خلال 30 دقيقة في حال أُطلق من قواعده في الأراضي الصينية.
المصدر: المادين