الأرق الفرنسي في ذاكرة استقلال الجزائر
خمسة وخمسون عاما من الاستقلال لم تكن كافية لتطبيع العلاقات بين الجزائر وفرنسا برغم تداول ثمانية رؤساء في فرنسا، وستة في الجزائر المستقلة، وتغيير مدروس للسفراء، وخلق قنوات اتصال رسمية وشبه رسمية عديدة، قد أخفقت جميعُها في خلق مناخ مناسب لتطبيع مطلوب كان يحتاج ابتداء إلى قيام ثورة ذهنية عند الرسميين الفرنسيين بالتخلص من الذهنية الاستعمارية عند التعامل مع بلد مثل الجزائر دفع الثمن الذي يعرفه الجميع، ومثله في سياق فرض السيادة الكاملة في كل صغيرة وكبيرة.
عض الجزائريين استبشر خيرا بالرئيس الفرنسي الجديد الذي بدا ـ وهو مرشح ـ وكأنه يعي بعد الذاكرة المكلومة في العلاقات بين البلدين بقرن وثلث قرن من الاستعمار الاستيطاني الآثم، قبل أن يعي الجميع أن تطوير العلاقات بين الجزائر وفرنسا يظل محكوما بثقافةٍ استعمارية عدائية مغروسة في قلب الدولة الفرنسية العميقة، هي التي تنتصر في نهاية الأمر على ما قد يصدر عن رأس الدولة أو الحكومة أو ما قد يجتهد له السفراء، وإلا فإن العلاقات بين البلدين كانت ستشهد انطلاقة جديدة مع رئيس فرنسي شاب، لم يكن حاضرا في المشهد الرسمي الفرنسي الذي تلطَّخ بدماء الجزائريين، وبدا وكأنه مستعد ذهنيا لتحرير المؤسسة الحاكمة من عقدة الصفحة الاستعمارية وطيِّها بعد أداء واجب الاعتراف وتحمل التبعات بالتكفير الملموس عن جرائم الدولة الفرنسية.
ثلاثة ملفات لا تزال تشكل محطات لتقييم مقدار نماء أو تراجع هيمنة الثقافة الاستعمارية على سلوك المؤسسات الفرنسية الرسمية، قد يكون ملف العلاقات الاقتصادية أهونها، قياسا مع ملف العلاقات السياسية الذي قلّما حصل فيه توافقٌ بين الطرفين، أو الملف المتصل بأمن واستقرار الجزائر الذي ليس له اليوم خصم اشرس وأخطر من المناورات الفرنسية المعلنة والمتخفية، وقد أحاطت بالبلد من الاتجاهات الأربعة، بدءا بملف الصحراء الغربية المزمن، حيث الحضور الفرنسي الوازن، وتصدُّر فرنسا لمسار زعزعة الاستقرار في دول الجوار: ليبيا ومالي، قد ينتقل مع ماكرون إلى توطين دائم لبؤر النار في منطقة الساحل، وإلى حضور عسكري فرنسي (حوالي 4000 عسكري) قال عنه ماكرون لجنوده ولزعماء دول مجموعة الخمس أنه باق (ويتمدد) حتى تحقيق الانتصار على الإرهاب.
وبصرف النظر عن الدعم الفرنسي المتعدّد الأوجه للمغرب في ملف الصحراء الغربية، وقد انتقل من المقاولة النشيطة له في الأمم المتحدة وفي الاتحاد الأوروبي إلى المناورة داخل منظمة الاتحاد الإفريقي، فإنَّ نيَّة الرئيس الفرنسي المعلنة لتثبيت ما يشبه الحلف العسكري من دول الساحل الخمس للتغطية على حضور عسكري فرنسي دائم على تخوم حدودنا الجنوبية، لن يساعد بأي حال من الأحوال على فتح صفحة جديدة بين الجزائر وفرنسا، وقد يدفع بالجزائر "مكرهة" إلى تطوير الشراكة مع دول عظمى معنية بإدارة منطقة الساحل والصحراء الكبرى، بما قد ينهي الحضور الفرنسي العسكري والسياسي، ويطال مصالح فرنسا الاقتصادية في المنطقة، وهي في كل الأحوال لا تمتلك اليوم وسائله المالية والعسكرية ولا القوة الدبلوماسية الناعمة، كما اكتشفته الدبلوماسية الفرنسية مؤخرا في مجلس الأمن حين أخفقت في استحلاب غطاء أممي لحضور عسكري فرنسي في مالي يريد أن يمتدَّ إلى كامل دول الساحل تحت راية محاربة الارهاب.