القواعد الأميركية باقية في تركيا والبوسفور سلاح ترامب الأقوى

29.12.2019

عندما هدد إردوغان قبل أيام بإغلاق القواعد الأميركية في تركيا، فوجئ الجميع بالاتفاق الذي وقّع عليه الطرفان الأميركي والتركي في اليوم نفسه، ويقضي بتوسيع وتحديث القواعد الأميركية والأطلسية في تركيا، وتحصى بالعشرات من القواعد البحرية والجوية والبرية، بالإضافة إلى التسهيلات والامتيازات التي يستفيد منها الجيش الأميركي في مختلف القواعد العسكرية التركية.

وتكتسب هذه القواعد أهمية إضافية لأنها قريبة من سوريا والعراق وإيران وروسيا، وفيها نحو 50 قنبلة نووية تم تحديثها مؤخراً بعد إنشاء قاعدة كوراجيك شرق البلاد بعد ما يسمى بــ "الربيع العربي ".

ومهمة هذه القاعدة هو مراقبة كل التحركات العسكرية الإيرانية وإبلاغ تل أبيب بأي صاروخ باليستي ستطلقه إيران باتجاه "إسرائيل"، حتى يتسنى لها التصدي لهذا الصاروخ قبل وصوله إلى "إسرائيل" وإسقاطه فوق الأردن أو العراق.

وأما قاعدة إنجيرليك فهي الأقدم في سلسلة القواعد الأميركية التي تم إنشاؤها بعد 1951 ووصل عددها في بداية الستينيات إلى أكثر من 100 قاعدة، حيث كانت تركيا المخفر المتقدم الذي يحمي حدود الأطلسي شرقاً وجنوباً.

وتعتبر أنجيرليك من أهم القواعد الأميركية بسبب ما تحتويه من طائرات ومعدات عسكرية مهمة جداً، بما فيها طائرات الآواكس وصواريخ باتريوت لحماية تركيا من أي  هجوم روسي من سوريا.

وكان لهذه القاعدة وما زال سجلّ أسود بالنسبة لسوريا والعراق وإيران في الخمسينيات، وتعتبر من أهم القواعد التي تم إنشاؤها في المنطقة لحماية "إسرائيل".

ولم تكتفِ واشنطن بهذا التفوق بل سعت دائماً من أجل المزيد، وكما هو الحال الآن في قضية المضائق، أي البوسفور الذي يربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة ويربط الدردنيل مرمرة ببحر إيجة، وفيه المئات من الجزر والصخرات اليونانية. 

وتشهد علاقات تركيا مع أثينا المزيد من التوتر بسبب الخلاف المستمر في ما يتعلق بتقاسم الجرف القاري والمياه الإقليمية والمجالات الجوية في هذه المنطقة. وهو الموضوع الذي اكتسب أهمية إضافية بعد اتفاق أنقرة مع طرابلس لرسم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا في الأبيض المتوسط، وهو ما اعترض عليه الجميع. وهنا تبدأ المساومات والرهانات والصفقات بين مختلف الأطراف، طالما أن واشنطن مازالت ترى في موسكو عدوها الأكبر، وكما كانت في عهد الاتحاد السوفياتي وعلى الرغم من سقوط الاتحاد وانهيار الشيوعية.

وبدأت الاوساط السياسية والعسكرية والاستراتيجية الحديث عن أكبر مواجهة محتملة بين الروس والأميركيين والفضل في ذلك سيكون للرئيس إردوغان.

فبعد كل ما قام ويقوم به من عمل عسكري وسياسي واقتصادي في سوريا والعراق وليبيا والصومال، بالإضافة إلى هنغاريا وألبانيا ومقدونيا وهي جميعاً دول بلقانية يعتقد إردوغان أن هذه المعطيات ستساعده لدعم مشاريعه ومخططاته في المناطق المذكورة، وهو ما سيجعل من تركيا دولة "توسعية عظمى"!

وفي هذا الإطار جاء حديث الرئيس إردوغان عن إنشاء قناة جديدة غرب مضيق البوسفور بطول 47 كم، بحيث ستمرّ منها السفن بحرية وبأسرع ما يمكن.

وعلى الرغم من اعتراض أحزاب المعارضة وكل خبراء الجيولوجيا والمياه والبيئة على هذا المشروع، قال إردوغان إنه سينفذه غصباً عن الجميع.

وتحدث الإعلام عن شراء والدة أمير  قطر الشيخة موزة وشقيقاتها ومعها شركات قطرية وكويتية مساحات واسعة من الأراضي على ضفتي القناة الجديدة، وقيل إن ذلك سيحقق لها أرباحاً قد تصل إلى المليارات من الدولارات التي لن تعني أي شئ بالنسبة إلى مكاسب أميركا. 

فقد حددت اتفاقية مونترو لعام 1936 شروط المرور من مضيق البوسفور في أوقات السلم والحرب. ففي أوقات السلم تمر السفن التجارية العالمية بحرية تامة ودون أي قيد أو شرط ومجاناً من البوسفور . كما تمر كل السفن الحربية المملوكة للدول التي تطل على البحر الأسود بكل حرية فيما تضطر السفن الأخرى إلى إبلاغ تركيا قبل فترة تتراوح بين 8-15 يوماً، شريطة أن لا يتجاوز عدد هذه السفن 9 سفن ووزن كل منها لا يزيد على 2000 طن.

ولا تسمح الاتفاقية للسفن الحربية التي تزن أكثر من 10 آلاف طن أو حاملات الطائرات والغواصات بالمرور من المضيق في السلم والحرب معاً. وسعت أميركا أكثر من مرة لتعديل الاتفاقية أو إلغائها أو إيجاد بديل للبوسفور وهو  ما سيتحقق لها الآن بقناة اسطنبول الجديدة التي في هذه الحالة لن تشملها اتفاقية مونترو. وبمعنى آخر سوف تمر حاملات الطائرات والغواصات والمدمرات الأميركية من القناة من دون أي قيد أو شرط، وبالعدد الذي تشاؤه لتذهب الى موانئ رومانيا وبلغاريا اللتين انضمتا للحلف الأطلسي في آذار 2004، أي قبل شهر من الإعلان رسمياً عن مشروع الشرق الأوسط الكبير.

كما تخطط واشنطن لإرسال سفنها الحربية عبر قناة اسطنبول الجديدة إلى موانئ جورجيا وأوكرانيا وعلاقاتها سيئة مع روسيا،التي ستجد نفسها حينها في مواجهة السفن الحربية الأميركية في البحر الأسود الذي كان بحيرة سوفياتية قبل سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1989 .

وهنا تبدأ الأوساط السياسية والدبلوماسية والعسكرية حديثها عن العديد من السيناريوهات التي ستحدد ملامح المرحلة القادمة في مساعي إردوغان لتحقيق التوازن في علاقاته مع كل من بوتين وترامب. وقال نائب رئيس الوزراء الأسبق في حكومة إردوغان للفترة 2003-2007 عبد اللطيف شنار، إن إردوغان اتفق مع ترامب في موضوع القناة الجديدة مقابل دعم واشنطن له، وإنقاذه من ملاحقات الخزانة الأميركية التي تبحث عن ثروة إردوغان الشخصية.

ويبدو واضحاً أن مثل هذا الاحتمال يترتب عليه مواقف تركية عملية واستراتيجية ضد روسيا، بما في ذلك إغلاق المضائق أي البوسفور والدردنيل في وجه السفن الروسية التي لن تستطيع الذهاب الى الأبيض المتوسط، وهو ما سيعني حرباً شاملة بين الطرفين ليس سهلاً على أحدهما حتى التفكير بذلك.

وهنا يعود الحديث عن مساومات تركية مع موسكو ليس فقط في ما يتعلق باتفاقية مونترو، بل مجمل التفاصيل التي تخص العلاقات الثنائية وفي مقدمتها سوريا التي يتهرب الرئيس بوتين من الضغط هناك على الرئيس إردوغان. ليس فقط لإبعاده بقدر الإمكان عن واشنطن والأطلسي، بل منعه من أي اتفاق مع ترامب في موضوع قناة اسطنبول الجديدة.

ويرى العديد من المراقبين في حديث إردوغان بين الحين والحين عن ضرورة إعادة النظر في اتفاقية لوزان التي اعترفت بالجمهورية التركية عام 1923 مؤشراً مهماً على نواياه الدولية والإقليمية، بعد أن تحدث قبل ذلك عن الميثاق الوطني الذي رسم حدود تركيا وكانت تضم  الشمال السوري والعراقي بأكمله وكما هو الحال عليه الآن في سوريا.

وتضع كل هذه المعطيات بكل تفاصيلها المعروفة وغير المعروفة العلاقات التركية - الروسية أمام سلسلة من السيناريوهات المعقدة والخطيرة بانعكاساتها الأخطر على سوريا والعراق وليبيا ولبنان والمنطقة عموماً، طالما أن البوسفور والدردنيل ذو أهمية استراتيجية مصيرية لا يمكن لبوتين لأن يتجاهلها، مهما كلفه ذلك في سوريا أولاً والمنطقة عموماً لاحقاً.

ويفسر ذلك عدم تراجع الرئيس إردوغان عن سياساته في سوريا والعراق والآن في ليبيا، لأنه يعتقد أنه يملك ما يكفيه من الأوراق المهمة في مساوماته مع بوتين ليس فقط حول البوسفور  وقناة اسطنبول الجديدة، بل قضايا أخرى والعلم عند الله بمحتواها!