«النصرة» تُجدِّد «عهد الأمان» لواشنطن وتخشى الانقلاب عليها!

22.07.2016

لا مؤشرات جادة على أن الولايات المتحدة قد غيّرت موقفها من «جبهة النصرة» وأنها أصبحت مستعدة لإعلان الحرب ضدها كما فعلت من قبل ضد تنظيم «داعش». وحتى مضمون مسودة الاتفاق التي عرضها وزير الخارجية الأميركي جون كيري على الكرملين، الأسبوع الماضي، ليس فيه أي إشارة تدلّ على أن هذا التغيير بات وشيكاً.

فالشروط المعقدة وشبه المستحيلة التي وضعت في مسودة الاتفاق، مقابل موافقة واشنطن على الاشتراك مع روسيا في محاربة «داعش» و «النصرة»، مثل القيود المفروضة على نشاط الجيش السوري، واشتراط منع الطيران السوري من القيام بأي عمل عسكري فوق المناطق المشمولة بالاتفاق، وربط محاربة «النصرة» بإطلاق عملية الانتقال السياسي، هذه الشروط لا تعني وجود بوادر على إمكان حدوث تغيير جذري في موقف الإدارة الأميركية من «جبهة النصرة»، إلا بمقدار ما تعني أن «النصرة» لم تكن تلعب «لعبة الانتظار الذكية» ـ كما وصفتها صحيفة «واشنطن بوست» ـ إلا بسبب استفادتها من التمنّع الأميركي تجاه الإلحاح الروسي بخصوص تنفيذ الالتزامات المتعلقة بوجوب الفصل بين الفصائل المعتدلة وبينها.

ومن يقرأ بنود مسودة الاتفاق كما سربها الإعلام، قد لا يكون مخطئاً إذا تبادرت إلى ذهنه أسئلة حول مدى مساهمة الاختلاف الأميركي ـ الروسي في تأمين مظلة حماية واسعة فوق «جبهة النصرة» ساعدتها حتى الآن في تفادي غارات كثيفة ضد معاقلها تشبه الغارات التي تستهدف «داعش»، وعما إذا كانت الأخيرة نتيجة وعيها لأبعاد الموقف الأميركي الرافض للمقترحات الروسية، قد شعرت بفسحة أمان مكّنتها من التحرك بحرية كبيرة نسبياً من دون الخشية من أي عواقب جدية.

وبكل الأحوال، لا يمكن إنكار أن التذرع الأميركي بحماية «الفصائل المعتدلة» المدعومة من واشنطن والسعودية وتركيا وقطر، لمنع قصف المناطق التي يتداخل فيها وجود هذه الفصائل مع وجود «النصرة»، وهي مساحات شاسعة تشمل محافظة إدلب والأحياء الغربية في مدينة حلب وأريافها الشمالية والجنوبية والغربية، وكذلك أرياف حماة وحمص ودمشق، جعل الخطر الذي تواجهه «جبهة النصرة» ينخفض إلى حدوده الدنيا، وهي لم تكن تحتاج إلى أكثر من ذلك في هذه المرحلة.

وبالرغم من أن الطائرات الأميركية شنّت خلال الأعوام الماضية غارات عديدة ضد «جبهة النصرة» سقط جراءها عدد من كبار قادتها، كان آخرهم أبو فراس السوري وإبنه، إلا أن واشنطن كانت تركّز في خطابها الإعلامي على أنها تستهدف ما أسمته «جماعة خراسان»، ما أعطى انطباعاً بأن واشنطن تستهدف جزءاً صغيراً من «جبهة النصرة» لا كلها، وهو الجزء الذي تقول إنه يتألف من قادة قدموا من أفغانستان ويعملون على وضع الخطط لاستهداف مصالحها ومصالح الدول الغربية.

وقد أقرّ زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني أن «جماعة خراسان» ما هي إلا جزء من «جبهة النصرة»، ولكنه في محاولة على ما يبدو لإيقاف الغارات الأميركية أو حصر نطاقها قدر الإمكان، شدّد في حديث مع قناة «الجزيرة» القطرية في أيار من العام الماضي على أن مهمته تنحصر في «إسقاط النظام السوري وقتال حزب الله»، وأنه «لن يتخذ الشام كقاعدة لاستهداف أميركا وأوروبا»، كاشفاً عن أن هذه التعليمات صدرت عن زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري. وقد جاء هذا التصريح لينسف ما كان توعد به الجولاني في أيلول من العام 2014 بخطابه «لأهل الوفاء يهون العطاء» الذي هدد فيه الشعوب الغربية «بنقل المعركة إلى قلب داركم» وذلك مع بداية عمل «التحالف الدولي» ضد تنظيم «داعش».

ويبدو أن «جبهة النصرة» لا تزال تراهن على فعالية المعادلة نفسها، أي التزامها بعدم استهداف المصالح الأميركية والغربية، مقابل امتناع الولايات المتحدة عن قصف قادتها ومقارها، مع تحملها للضريبة الناجمة عن استهداف «جماعة خراسان» وعدم القيام بأي ردّ فعل تجاه ذلك، من دون أن يعني ذلك أن قيادة «النصرة» تراودها أي أوهام بخصوص ثبات الموقف الأميركي ومدى سهولة تغييره بمجرد أن تتطلب مصلحة واشنطن ذلك.

ولعلّ هذا ما يفسر مسارعة «جبهة النصرة» إلى تأكيد التزامها بالمعادلة السابقة مع إبداء خشيتها من أن تكون ساعة التغيير قد حانت، وذلك بعد ساعات من «مقالة رأي» وردت في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية أشار فيها الكاتب ديفيد أغناثيوس إلى أن «الطموح الجهادي العالمي لأسامة بن لادن لا يزال جزءاً من (الحمض النووي) لجبهة النصرة»، لافتاً إلى ما يتحدث به «المسؤولون الأميركيون عن أدلة تُظهر أن الجماعة تخطط لعمليات خارجية ضد أوروبا والولايات المتحدة، وحاول ناشطوها، على ما يعتقد، اختراق تجمعات اللاجئين السوريين في أوروبا».

وتخشى «جبهة النصرة» أن تكون مثل هذه المقالات بمثابة شرارة لإطلاق حملة إعلامية ضدها تمهيداً لوقف مفاعيل المعادلة السابقة والعمل على شنّ حملة عسكرية للقضاء عليها كما يحصل مع تنظيم «داعش». وتشير سرعةُ تفاعل أبي عمار الشامي المتحدث الرسمي باسم «جبهة النصرة» مع ما ورد في الصحيفة، إلى مدى عمق إدراكها لتأثير الموقف الأميركي على مصيرها وسحب مظلة الحماية من فوقها.

إذ بعد أن أعرب الشامي عن شكوكه بأن الولايات المتحدة تخلق «أسباباً واهية ودعاوى كاذبة بغية تهيئة الرأي العام» ضد «جبهة النصرة»، وبعد إشارته إلى أن «استهداف النصرة هو استهداف للثورة السورية»، أعاد التشديد على مضمون المعادلة السائدة، مؤكداً من جديد على أن مشروع جماعته لا ينطوي على أي تهديد لأميركا والغرب.

وقال أبو عمار الشامي في تغريدات على حسابه الرسمي على «تويتر»، أمس، إنه «أمام مصلحة الحفاظ على الجهاد الشامي قائماً قوياً، تنزوي وتغيب كل المصالح المرجوة الأخرى من استهداف الغرب وأميركا». ونبّه «الفصائل المجاهدة» إلى أن «القضاء على جبهة النصرة اليوم والسماح للاتفاق الروسي الاميركي بالمرور دون موقف منكم، لهما خذلان لإخوانكم وإضعاف لقوتكم»، مشدداً على أن «أميركا لن ترضى بعدها منكم سوى الإذعان لحل سياسي يرجح في كفة الأسد وحلفائه».

ولا يخفى أن كلام الشامي لا يعبر فقط عن قلق «النصرة» من احتمال انقلاب واشنطن عليها وعلى المعادلة التي حكمت علاقتهما غير المباشرة من قبل، فحسب، بل تفوح منه رائحة الخشية من وجود تواطؤ لدى بعض الفصائل مع هذا الاحتمال، لذلك فإن رسالته إلى «الفصائل المجاهدة» هي أقرب إلى التهديد منها إلى التحذير.

جريدة "السفير"