المشاكل الجيوبولتيكية وقوانين المدى الكبير والعولمة والمفارقة الروسية

14.10.2016

قوانين المدى الكبير
قانون الجيوبولتيكا الأساسي هو مبدأ المدى الكبير الذي استنبطه ماكيندر وهاوسهوفر وطوره كارل شميدت. والاستقلال الوطني للدولة لا يرتبط وفقا لهذا المبدأ فقط بالقوة العسكرية، وبالتطور التقني والقاعدة الاقتصادية بقدر ما يرتبط  باتساع أراضي هذه الدولة ومساحاتها وبمكان توضعها الجغرافي. وقد دبَج منظرو الجيوبولتيكا الكلاسيكيون مئات المجلدات لبرهنوا على أن مشكلة الاستقلال ترتبط ارتباطا مباشرا بالاستقلالية الجيوبولتيكية للإقليم وباكتفائه الذاتي. وعلى تلك الشعوب والدول التي تتطلع حقا إلى الاستقلال أن تحل بالدرجة الأولى مشكلة اكتفائها الذاتي الترابي. وفي أيامنا هذه لا يمكن أن تتمتع بهذا الاكتفاء الذاتي إلا الدول البالغة الضخامة والواقعة في مناطق محمية استراتيجيا من أي هجوم محتمل استراتيجيا (عسكري، سياسي أو اقتصادي) من طرف التشكلات الدولية الأخرى.
وفي مرحلة المواجهة بين الرأسمالية والاشتراكية كانت الحاجة إلى الأحلاف والمجالات الكبرى أمرا واضحا. ولم يكن أحد يشك في أن البلاد لا يمكن أن  تكون  "غير منحازة" إلا بثمن إزاحتها عن مجال الجيوبولتيكا الكونية على حساب التهميش والعزل إلى الأطراف. وفضلا عن ذلك فإن جميع "غير المنحازين" قاموا باختيارهم لصالح هذا المعسكر أو ذاك وإن كان اختيارا أقل جذرية من اختيار أنصار الاشتراكية أو الرأسمالية. وانهيار إحدى الدولتين الأعظم يغير دون شك وبصفة جادة المدى الجيوبولتيكي للأرض. لكن مبدأ المجالات الكبرى لا يفقد بأي حال قوته – بل على العكس من ذلك يغدو مشروع "العولمة" الجيوبولتيكي اليوم الأكثر انتشارا والذي يفضي مغزاه إلى تحويل كافة سطح الأرض إلى مجال كبير موحد، تتم إدارته من المركز الأمريكي.

pax Americana  وجيوبولتيكا العولمة
مشروع المجال الأطلسي الكبير الموالي لأمريكا وإقامة  Pax Americana أو فرض "النظام العالمي الجديد" ذي "الحكومة العالمية" الواحدة – كل هذا في جوهره مترادفات جيوبولتيكية. ومثل هذا المخطط بالذات يتدارس ويطبق اليوم في سياسة الغرب الدولية والولايات المتحدة بالدرجة الأولى. ومن الواضح أن المنظومة العالمية للمجال الكبير تستثني بصفة كلية أية صيغ للاستقلالية الحكومية والسياسية الأصلية بالنسبة لأي شعوب أو دول مهما كانت. والأدهى من ذلك أن العالم المزدوج القطبين قد أعطى من مستويات الحرية (السيادة) للدول الداخلة في نطاق نفوذ أحد المجالين الكبيرين ما يزيد بدرجة لا يمكن مقارنتها بما يخطط له في المشروع المعولم، وذلك على الأقل لأن المجابهة الكونية ما أجبرت فقط على خنق الدول التابعة بل وعلى رشوتها أيضا. والمجال الكوني الكبير الوحيد لدارسي المستقبل العولميين سيعني الزوال الكامل حتى لأقل ظل من أي استقلال مهما كان طفيفا، لأن الضغط بالقوة (العسكرية أو الاقتصادية) على "الآماد الصغرى" المفتتة المذراة يغدو الوسيلة الوحيدة للسيطرة (وضرورات الرشوة تنتفي من تلقاء نفسها خلف غياب المنافس الجيوبولتيكي المعادي).
والوضع العملي يطرح أمام كل دولة وكل شعب (وبخاصة أمام الحكومات والشعوب التي كانت قد دخلت في المعسكر الجيوبولتيكي المعادي للغرب الأطلسي)، خيارا ملحا – إما التكامل ضمن مجال كبير تحت قيادة الأطلسيين، وإما إقامة مجال كبير جديد قادر على مواجهة الدولة فوق العظمى الأخيرة. 
ومسألة الاستقلال الجيوبولتيكي الحقيقي ترتبط بعلاقة مباشرة بهذا الخيار، ولكن لا يمكن أن يكون ثمة أي استقلال كامل لأي شعب أو دولة في أي حالة من الحالتين. فلدى اعتناق الأنموذج العالمي يتم بصورة معروفة مسبقا استبعاد أي استقلال لأن "الحكومة العالمية" تصبح مركز السلطة الأوحد والذي لا خيار سواه والمستقل في هذه الحالة هو فقط  إمبراطورية "النظام الكوني الجديد" العالمية الزائفة. وتصبح جميع أجزائها، وفقا لذلك مستعمرات وإزاء تنظيم المجال الكبير الجديد نتعامل مع سيادة نسبية في إطار تشكل جيوبولتيكي كبير، لأن هذا المجال الكبير سيغدو حرا بصفة نسبية لدى تحديد الفكرة الأساسية الأيديولوجية المتعلقة برؤية العالم. وهذا يعني أن الشعوب والدول التي تدخل في هذا المعسكر يمكن أن تعول، على الأقل، على سيادة إتنوثقافية وعلى مشاركة مباشرة في بناء وإعداد إيديولوجية كبرى، بينما تكون الصفة المعولمة  "للنظام العالمي الجديد" قد انتهت فكريا وتم إعدادها فتعرض على جميع شعوب الأرض كنظير استعماري للنموذج الليبرالي – السوقي الأمريكي.
 
المفارقة الروسية
خصيصة الموقف الجيوبولتيكي الفعال في أن مبادرة دمار المجال الأوراسي الكبير والذي كان قد وجد في صيغة المعسكر الاشتراكي انطلقت من نفس مركز هذا المعسكر، من عاصمة الأوراسيا – موسكو. فالاتحاد السوفيتي بالذات في شخص غورباتشوف صار المبادر إلى إدخال المعسكر الأوراسي في المشروع العولمي. وأفكار "البيريسترويكا" و "التفكير الجديد" وما إلى ذلك كانت، على المستوى الجيوبولتيكي، تعني الاعتناق الكامل لأنموذج المجال الكبير والموحد والانتقال الواعي من العالم ثنائي القطبين إلى العالم الوحيد القطب. فتم في البداية تدمير المعسكر الاشتراكي، ثم تقليص الحلف الشرقي. وتواصلت التصفية الجيوبولتيكية الذاتية بعد ذلك وأبعدت عن روسيا تلك الأقاليم التي درج على تسميتها اليوم "ببلاد الخارج القريب".
ومهما يكن من أمر فإن روسيا – كقلب الجزيرة الأوراسية، ك heartland ، استطاعت في الوضع الجيوبولتيكي الحيوي، وبصورة أفضل من جميع الأقاليم الأخرى، أن تواجه الجيوبولتيكية الأطلسية وأن تكون مركز المجال الكبير البديل. إلا أن حقيقة تصفيتها الجيوبولتيكية الذاتية قد أجبرتها على التنحي لفترة زمنية (نأمل أن تكون قصيرة) عن الأدوار المركزية في المواجهة  الجيوبولتيكية. 
ولهذا ينبغي تدارس إمكانات أخرى لإقامة مجال كبير بديل لكي تتمكن الدول والشعوب الرافضة المشروع العولمي من اتخاذ بعض الخطوات الذاتية دون انتظار صحوة روسيا الجيوبولتيكية.