الخليجيون يرمّمون «الجيوبوليتيك» الأميركي بأموالهم ودماء.. الأشقاء

19.05.2017

تندرج الجولة الحالية للرئيس الأميركي دونالد ترامب في منطقة «الشرق الأوسط» ضمن مشروع جديد لترميم الجيوبوليتيك الأميركي المثقوب من ثلاثة مراكز: التموضع الإيراني القويّ من آسيا الوسطى إلى سواحل لبنان، والعودة الروسية المتدحرجة نحو الفضاء السوفياتي، وأخيراً تدعيم الاقتصاد الأميركي المتراجع.

الواضح حتى الآن أنّ واشنطن اختارت المجابهة على المستويات التالية: قتال عنيف ضدّ إيران، وذلك بتسعير الفتن السنّية الشيعية، الزيدية الشافعية الصوفية الحنبلية، والتناقضات القومية، مع أسلوب الاستهداف العسكري المباشر للقوى المتحالفة مع إيران في اليمن والعراق وسورية ولبنان.

أمّا لجهة تحجيم الدور الروسي، فإنّ إدارة ترامب تفضّل التفاهمات الدبلوماسية مع موسكو على «القطعة»، وتراهن على تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، ما يُنتج تلقائياً انحسار الدور الروسي لأنّ طهران هي التي عبّدت الطرق إلى لبنان وسورية والعراق، ولاحقاً اليمن.

يتبقّى موضوع تدعيم الاقتصاد الأميركي الذي يريد مبلغ ستة آلاف مليار دولار فقط لترميم البنية التحتية الأميركية، والذريعة هنا أنّ واشنطن لم ترمّمها لانهماكاتها في حماية بلدان الخليج واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وبلدان نمور آسيا. هؤلاء، وفي مقدّمهم العربان، مطلوب منهم أن يسدّدوا القسم الأكبر من الرقم المطلوب في مدّة أربع سنوات هي ولاية ترامب، وتحت شعار لا يخلو من وقاحة «الكاوبوي الجديد» الفظّ، وهو: «ادفعوا كي نواصل حمايتكم عن القديم.. والجديد الذي لم يأتِ بعد».

وللإشارة، فإنّ علم الحرب الألماني قدّم تعريفاً إمبريالياً للجيوبوليتيك، يعتبر أنّ الحدود السياسية للدول القوية يجب أن تتمدّد إلى حيث توجد حاجاتها ومصالحها، ولذلك يقول إنّ الحدود «كائن حيّ يتقلّص ويتمدّد تبعاً لمتطلّبات الدولة».

أليس هذا ما تطبّقه السياسة الأميركية حرفياً ومنذ 1945؟ فهي موجودة عسكرياً وسياسياً، حيث توجد الموارد الاقتصادية المتنوّعة، وتمسك بالبلدان ذات الطابع الاستهلاكي وتنشر قواعدها العسكرية لتأمين الممرات المستقرّة والمؤدّية إلى المواقع التي تحتاجها مشاريع هيمنتها.

هذا ما يحاول ترامب إعادة إنتاجه في زياراته الشرق أوسطية، ويبدو أنّ هناك اتفاقات مسبقة بين الأميركيين والسعوديين في لقاءات متنوّعة بدأت بزيارة وليّ وليّ العهد محمد بن سلمان إلى واشنطن، وتواصلت بلقاءات سرّية بين دبلوماسيّي البلدين.

يستند المشروع الأميركي إلى الأهمية الدينية للسعودية، التي تدير مكة المكرمة والمدينة المنورة وموسم الحج… مع علاقات عميقة بين مذهبها الوهابي ومعظم المراكز الدينية في العالم الإسلامي، تمويلاً ونشراً للفكر المتزمّت. وبذلك تستطيع تعميق الفتن المذهبية بين باكستان والبلوش والأكراد والعرب مع الجزء الشيعي من إيران، وبين السوريين واللبنانيين والعراقيين مع سعي إلى توتير العلاقات بين الزيود والشافعيين في اليمن والصوفيين والحنابلة في مصر، من دون نسيان آسيا الوسطى بهدف تدمير النفوذ الإيراني الروسي في آن معاً.

ترفد هذه الأهمية الدينية إمكانات مالية مفتوحة من جبايات النفط الذي يستخدم كرافعة للتحريض وتفجير العالم الإسلامي إلى جانب التوزيع المستمر للرِّشى والمكرمات لتأمين ولاءات دائمة في السياسة. لذلك فالسعودية هي الوحيدة القادرة على تأمين حلف عسكري إسلامي يشكّل جزءاً من الناتو الأطلسي، ويقوم على القدرات العسكرية لمصر وباكستان والأردن والسودان، واستعراضات جيوش الخليج.

وتتولّى الرياض أيضاً تمويل الحركات الكردية في إيران والعراق وسورية لاستنزاف هذه الدول مع محاولة تفكيكها سياسياً لإضعافها، وهي نقطة تثير غضب حلفائهم الأتراك المتوجّسين شرّاً من دعم الكرد، لخشيتهم من انتقال العدوى إلى مناطقهم التي يشكّل الكرد فيها 15 في المئة من السكان، وينتشرون على أكثر من 15 في المئة من الجغرافيا السياسية التركية، لذلك يوجد تناقض تركي مع الأميركيين والسعوديين حول هذه النقطة فقط.

وما يكشف هذه الوجهات المخطّط لها، بدء الهجمات السياسية الكردية في كردستان على الشيعة في العراق والحشد الشعبي، واتّهامهم بالسطو على مقدرات البلاد وتأسيس ديكتاتورية على حساب «السنّة العرب» والكرد في آن معاً. علماً أنّ المناطق المختلف عليها بين الكرد وبغداد هي مناطق سنّية، تصرّ «الأحزاب السنّية» الموالية لتركيا وقياداتها على «عراقيّتها الحصرية»، وتصريحات آل النجيفي تؤكّد هذا الموضوع.

أمّا الحركة الثانية الكاشفة للمخطط الأميركي الخليجي فظهور توتر متصاعد بين باكستان وإيران على خلفية هجمات من «تنظيمات إرهابية» في المناطق الحدودية بين البلدين، استهدفت قوات أمنية إيرانية. وبدلاً من أن تقدّم إسلام آباد اعتذاراً، فقد مالت نحو التشدّد وتهديد إيران.

هناك إذاً تطويق لإيران من جهة باكستان وكردستان العراق حدودياً، والبلوش وأقليات أخرى داخلياً… مع استهداف تحالفاتها في سورية ولبنان والعراق، بالإضافة إلى اليمن الذي نجح الحلف الأميركي في إرسال الجوع والكوليرا والأوبئة إلى شعبه عن طريق الحصار الخانق. وهناك تسخين سعودي أميركي إماراتي للبدء بتقسيم اليمن، لتقليص ما يعتقده هذا الحلف أنّه نفوذ إيرانيّ في حين أنّ أنصار الله هم جزء من الزيود الموجودين في اليمن منذ أكثر من ألف ومئتي عام.

ومحاولات ضرب إيران، أدركت لبنان أيضاً، لأنّ واشنطن بصدد إصدار عقوبات تستهدف الشيعة في لبنان وتحالفاتهم، ما يؤدّي على الفور إلى انهيار الاقتصاد اللبناني والدفع في اتجاه حروب طائفية ومذهبية في الداخل ضدّ حزب الله، ويبدو أنّ هناك علاقة بين منع إصدار قانون جديد للانتخابات وبين التحضير للحروب الداخلية.

لكنّ سورية تبقى «واسطة العقد»، ويدّخر الأميركيون والسعوديون لها الكتلة الأكبر من السموم الطائفية والعسكرية على السواء، والتي تُختزل بالصراع الحالي على خط الحدود السوريّة مع الأردن والعراق. ومحاولات وضع اليد على وسط سورية من قِبل الأميركيين، يقابلهم تقدّم للجيش السوري مدعوماً من الحلفاء والروس بهدف تحرير البادية ودير الزور وقطع الطرقات بين الأكراد والأميركيين المتقدمين من الشرق مع الأميركيين والبريطانيين والأردنيين المهاجمين من الأردن باتجاه المناطق المحاذية للحدود العراقية السوريّة.

ولإرضاء الأتراك، فقد لا تتورّع واشنطن عن السماح لهم بدخول منطقة إدلب والسيطرة عليها بذريعة القضاء على الإرهاب، وذلك كحركة تطمئنهم في وجه مشاريع الكرد الانفصالية. لكنّها في الحقيقة ليست إلا حركة لتقسيم سورية كما تشتهي واشنطن والسعودية بين الكرد والأتراك المموّهين بمعارضة تركمانية سورية، ومعارضات سعودية وقطرية تنتمي إلى «القاعدة» ومشتقاتها، ومعارضات بنتها واشنطن بمعونة الأردن بين الحدود السورية العراقية الأردنية ومع فلسطين المحتلة.

ولتأمين مشروع ترميم الجيوبوليتيك الأميركي في العالم الإسلامي، تجب تصفية قضية فلسطين أو وضعها في ثلاجات الانتظار في حال تعذّر حلّها، ومشروع الدولتين المعدّل بتبادل أراضٍ بين الضفة الغربية وصحراء النقب حاضر، لكنّ اعتراضات «إسرائيل» عليه تربك الاستعجال الأميركي للحل، لذلك فإنّ انصياع منظمة حماس واستعداد السلطة الفلسطينية للقبول بأيّ حلّ وإرجاء واشنطن الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، مؤشرات على إرجاء طويل الأمد، إنما من خلال قبلات حارة بين محمود عباس ونتنياهو بإشراف ترامب للزوم تأمين الهدوء في العالمين العربي والإسلامي.

لجهة تأمين مستلزمات الاقتصاد الأميركي التمويلية، فهي أسهل من العمل مع تضاريس السياسة. فمن يصدّق أنّ شهراً واحداً كان كافياً لإقناع السعودية ودولة الإمارات بعقود عسكرية وخدمية مع واشنطن قيمتها 450 مليار دولار دفعة واحدة، ومن دون صدور أيّ أنين أو شكوى من الدافعين المستعدّين كما يبدو للدفع حتى استنزاف احتياطاتهم مقابل القضاء على النفوذ الإيراني ودعم ممالكهم قرناً إضافياً من الثور الأميركي ترامب!!

هذا ما تريده السياسات الأميركية الجديدة، لكنّ المشهد من الجانب السوري الروسي الإيراني العراقي لا يبدو قلقاً ومتوتراً، ويتعامل مع الأمور بموضوعية شديدة تستمدّ أُسسها من أنّ لا مستجدّات تستطيع عرقلة الاتصال الروسي الإيراني الجديد الذي يقوم على تحالفات سياسية وعسكرية مفتوحة على بعضها جغرافياً وبدأت تشتدّ اقتصادياً.

وهناك اتصال إيراني عراقي، يتّسم بالقوة لأنّه رسمي وشعبي في آن معاً، ويستحيل التعرّض له أو فكفكته لأنّه شديد القوة.

وفي حال تمكّن الأميركيون من إقفال الحدود العراقية الأردنية مع سورية، فهذا لا يحول دون الاتصال الروسي السوري الناهض بالقوة الروسية الدولية، ولهذا الاتصال مستتبعاته اللبنانية ما يجعله واقعاً موجوداً بالقوّتين الرسمية والشعبية بين موسكو ودمشق وحزب الله، مع بركات الدعم الإيراني المفتوح والأدعية الصينية لهم بالنجاح من وراء السلع الصينية المتهافتة على الأسواق الأوروبية والأميركية كالمطر.

لذلك يتّضح أنّ الحلفين المتصارعين مستمرّان في النزال السياسي حيناً، وبأشكال عسكرية مختلفة حيناً آخر. والفارق بينهما أنّ الحلف الأميركي السعودي هو حلف حكومات وممالك لا تتكئ على تأييد شعبي، في حين أنّ الحلف الروسي السوري العراقي الإيراني مسنود من جهات شعبية واسعة لا يمكن القضاء عليها في آسيا الوسطى وباكستان واليمن والعراق وسورية ولبنان.

أمّا التعويل على التحشيد الطائفي فلم يعُد مجدياً، لأنّ العرب والمسلمين يعرفون أنّ ممالكهم هي شركات وراثية تسطو على المال العام وتمنعهم من التطوّر، ويعلمون أنّ واشنطن هي الراعية والضامنة لهذا التخلّف الدائم. وإذا كانت السعودية بصدد قتال إيران بدماء أشقائها العرب المسلمين، فإنّ هؤلاء ليسوا على هذا القدر من البساطة ليظلّوا أداة في يد المشروع الأميركي السعودي الإسرائيلي المسرع إلى السقوط في هاوية لا قرار لها.