"الخليج" بحيرة مغلقة... والأمن الإقليمي مسؤولية الدول المتشاطئة!
كلّ ما يدور من حولنا يؤكد فشل واشنطن في فرض الحوار على طهران من خلال التلويح بالحرب أو ما يسمّى بسياسة حافة الهاوية!
في المقابل فقد نجحت طهران بامتياز في تحويل التهديد الى فرصة ونقل الضغط من على أكتافها الى كتف الأميركي الذي بات مثقلاً بثنائية العجز التامّ عن الحرب كما التفاوض!
من هنا فقد لجأ الأميركي في الساعات القليلة الماضية الى سياسة شيطنة الديبلوماسية الإيرانية وتخريب المحيط الإقليمي في محاولة بائسة «لفتنمة» الخليج…
وفي هذا السياق لا بدّ من إبراز ثلاثية الجمهورية الإسلامية الشهيرة في سياستها الخارجية والمعروفة بالعزة والحكمة والمصلحة وتطبيقاتها في مفهوم الأمن القومي والأمن الاقليمي.
منذ بداية الخمسينات وحركة التحرّر الوطني الإيراني تسعى جاهدة إلى تقديم تصوّر عن الأمن الإقليمي لمنطقة حوض «خليج فارس» يغاير نظرة القوى العظمى الباحثة عن أقصر الطرق لوضع يدها على ثروات المنطقة من جهة، كما يغاير النظرة التي حكمت نظام حكم الشاه الذي كان يستند إلى معادلات الخارج من جهة أخرى والتي دفعت به للوقوع في أحضان الأجنبي وما نتج عن ذلك من تحوّله إلى أداة طيّعة بيده ومن ثم إلى توكيله مهمة شرطي الخليج على حساب مصالح بلاده القومية ومصالح شعوب المنطقة، ومن ثم إلى إسقاطه بتلك الطريقة الدراماتيكية كما هو معروف.
في تلك المرحلة من نضال الخمسينات حاولت الحركة الوطنية الإيرانية ممثلة في الدكتور محمد مصدق أن تقدّم نموذجاً لما يمكن أن يلامس مقولة الحياد السلبي بوجه الاستقطاب الدولي الذي كان لتوّه قد نشأ بين أطراف المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وهكذا كانت مقولة تأميم النفط وخلع يد الإنكليز ومن ثم محاولة إنجاز سياسة خارجية بعيدة عن التجاذبات الدولية، وتحديداً خارجة على النفوذ الاستعماري، فرصة لم تتح كاملة أمام حركة التحرّر الإيرانية، وسرعان ما تمّ قمعها على يد أجهزة النظام الشاهنشاهي وأسياده الغربيين وتحديداً وكالة الاستخبارات الأميركية التي سرعان ما دخلت على الخط مباشرة مطيحة بالحكم الوطني وأعادت الشاه المخلوع والفار بالانقلاب الشهير الذي أطاح بحكومة مصدق الوطنية.
ولكن ما بقي راسخاً وعالقاً في أذهان وعقول ونفوس الإيرانيين، لا سيما القادة من مناضلي الحركة الوطنية والدينية منها على الأخص والتي تعتبر نفسها صاحبة الفضل الأساسي في الكفاح الثوري ضدّ حكم القناصل والسفارات الأجنبية، هو مقولة الحياد في الصراع بين الدول العظمى المتنافسة على الهيمنة والسيطرة على موارد الإقليم.
ومع نجاح الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام روح الله الموسوي الخميني عام 1979 كان الشعار الأهمّ الذي رفع طوال مسيرة التحضير للانتصار والذي تكرّس بعد الانتصار في إطار الدستور الرسمي للبلاد هو لا شرقية لا غربية جمهورية إسلامية .
هذه المقدّمة كان لا بدّ منها لفهم العقيدة السياسية وتالياً الأمنية التي يحملها اليوم صنّاع القرار في إيران لمفهوم الأمن الإقليمي. فالبداية بالنسبة لهم تكمن في الحياد ، أيّ في ضرورة النأي عن التجاذبات الخارجية الأجنبية القادمة من وراء البحار، ثم بعد ذلك تطوير مفهوم الحياد إنْ أمكن إلى حياد فعّال، أيّ عدم الوقوف متفرّجين أمام ما يحصل للإقليم وحوضه الخليجي بشكل خاص. ومن ثم إلى حياد إيجابي إنْ وجدت ضرورة أو فرصة حقيقية.
ولما كان صنّاع القرار الإيراني الجدد ينتمون إلى الحركة الإسلامية التحرّرية المعروفة بتوجهاتها المعارضة لأيّ تدخل أجنبي في سياسات الأمة العامة فهم لا شك يعارضون أيّ وجود فضلاً عن تدخل أو نفوذ أو ممارسة ضغوط عليهم من قبل القوى الخارجية العظمى في أيّ من الملفات الأساسية والتي تشكل المصالح القومية والدينية العليا للبلاد، وكذلك تلك التي تشكل المصالح العليا للإقليم.
إنّ طهران اليوم تعتقد اعتقاداً راسخاً بأنّ حوض الخليج الذي تتشاطأ هي وشقيقاتها الدول العربية المطلة عليه، هو قبل كلّ شيء خليج مغلق حسب القوانين والأعراف الدولية المعتبرة، لا سيما ما أكده ورسخه تقرير لجنة أولف بالمة الصادر عن الأمم المتحدة في عام 1983 ما يعني أن لا أحد من غير الدول المتشاطئة عليه يملك أيّ حق فيه، وأنّ نشاطاً يمارس عليه من خارج المنطقة أياً كان شكله أو نوعه لا بدّ أن يحظى بقبول عموم أو إجماع الدول المتشاطئة. وبالتالي فهي وإنْ كانت تعتقد بأهمية وجدية المصالح التجارية والاقتصادية والاستراتيجية وربما الأمنية لسائر دول العالم في هذا الحوض من حيث انه يملك مضيقاً يفتح على المياه الدولية الحرة، إلا أنّ ذلك لا يجعله حوضاً دولياً مفتوحاً، ولا يغيّر من طبيعته المغلقة، ولا يحوّل مياهه إلى مياه دولية تمخر فيه سفن الدول العظمى التجارية فضلاً عن الحربية كيفما تشاء ومتى ما تشاء وبالكمية والنوعية التي تشاء كما هو حاصل الآن.
فذلك كله بحاجة إلى أخذ إجماع الدول المتشاطئة، ولا بدّ أن يجري على أساس اتفاقيات وتوافقات إقليمية ومن ثم دولية شفافة وواضحة وإلا اعتبر انتهاكاً صارخاً لقانون البحيرات المغلقة أولاً ومن ثم انتهاكاً لسيادة الدول المتشاطئة كلّ على انفراد ثانياً وعملاً حربياً ضدّ الأمن القومي لكلّ دولة وضدّ الأمن الإقليمي ثالثاً.
ولما كان ما هو واقع وما هو ممارس اليوم على أرض الواقع في المياه الخليجية من قبل الدول العظمى بالصورة التي شرحت آنفاً يعتبر غير مقبول وغير قانوني وغير مشروع، ويعرّض الأمن الإقليمي للخطر حسب رؤية طهران، فإنّ الأخيرة، وإذ تقدّر الظروف الاستثنائية وأحياناً الإجبارية أو المفروضة الضاغطة على جيرانها في السكوت على هذه الانتهاكات الصارخة والفاضحة من قبل الدول العظمى، فإنها تدعو الدول المتشاطئة فرادى وجماعات إلى فتح باب الحوار والتفاوض في ما بينها لوضع تصوّر وصيغة إقليمية مشتركة لهذا الملف بما يؤمّن أمن واستقرار دوله أولاً قبل الحوار أو التفاوض مع العالم الخارجي حول مصالحه الحيوية وتحديد مدى مشروعيتها.
وعليه فإنّ التصور الأولي لدى طهران حول نظام أمن إقليمي في الخليج قد يكون على الشكل التالي:
أولاً: إنّ الأمن القومي لكلّ بلد من البلدان المتشاطئة على هذا الحوض الخليجي لا يمكن أن يتشكل ويتقرّر ويستقرّ منفصلاً عن الأمن القومي للدول الأخرى المتشاطئة معه.
ثانياً: إنّ الصيغة الأولية للتوفيق بين الرؤى المتباينة للدول المتشاطئة هي عقد اتفاقيات أمنية ثنائية ومتعدّدة تحفظ لكلّ طرف حقوقه وخصوصياته والجزء الخاص من أمنه.
ثالثاً: إنّ الصيغة الأمثل للدفاع عن الأمن القومي لكلّ دولة على حدة في ظلّ الفوضى الأجنبية المفروضة على الحوض والإقليم تكمن في عقد اتفاقيات عدم اعتداء، وتالياً دفاع مشترك إنْ أمكن.
رابعاً: إبقاء الحوار مفتوحاً للتشاور الدائم حول الصيغة المثلى لتحقيق مقولة الأمن الإقليمي المشترك.
خامساً: امتناع الدول المتشاطئة عن عقد أيّ اتفاقيات أمنية مع أيّ طرف كان من خارج الإقليم تسمح بالتعرّض للأمن القومي لأيّ من البلدان المتشاطئة أو استخدام أراضيها أو مياهها الإقليمية أو سمائها منطلقاً للحرب أو العدوان على الدول الأخرى الجارة.
سادساً: إجراء مراجعة جدية لكلّ الوقائع والأحداث والاتفاقيات والتوافقات التي كانت أو لا تزال تتحكم في حياة هذا الحوض الخليجي باعتباره خليجاً مفتوحاً يحق فيه للدول العظمى أن تفعل فيه ما تريد بحجة أو ذريعة المصالح الحيوية لدولها، والدعوة الجادة للدول المتشاطئة ومنظمات المجتمع الأهلي والمدني فيها إلى المشاركة في هذه المراجعات انطلاقاً من كون هذه البحيرة الخليجية بحيرة مغلقة بالأساس حسب قانون البحار الدولي، وبالتالي فإنّ تحقيق أمنها واستقرارها هو من اختصاص أهل المنطقة وسكانها أولاً، واعتبار أيّ متدخل أجنبي في هذا الأمن طارئاً وليس أصيلاً بانتظار أن يأتي اليوم القريب الذي يتفق فيه أهل الدار على صياغة جماعية لأمنهم الإقليمي تحفظ للجميع الحقوق المتكافئة، وتجبرهم على القيام بواجباتهم الأساسية كلّ حسب استثماراته والامتيازات المتحصّلة لديه من هذا الحوض الخليجي المشترك.
وبانتظار تحقق مثل هذا الوضع المثالي تنظر طهران، وينظر أهل المنطقة بعين الشك والريبة لأيّ تحرك من خارج هذا الإقليم تحت أيّ تسمية أو ذريعة كانت، وتعتقد أنّ على دول الإقليم أن تأخذ منحى «الحياد الفعّال» قدر الإمكان، أيّ منع الأضرار المتوقعة من أيّ تدخل خارجي مفروض وعدم تغطية أيّ شكل من أشكاله على أمل أن يتحوّل هذا «الحياد» إلى حياد إيجابي عندما تتمكّن دول المنطقة الغنية بالموارد الحيوية مجتمعة من أخذ دورها ومكانها اللائق والمقدّر لها في المعادلة الدولية كما تستحق.
هذا هو الحلّ الوحيد الناجع الذي يمكن ان يحمي أمن الجميع وإلا فإننا سنظلّ نشهد المزيد من التوترات والنزاعات والحروب وجرائم الحرب التي شهدتها هذه البحيرة المغلقة أمناً وسلاماً على أهلها كما يفترض.
ومن يراقب الحوادث الأخيرة فيها سيتأكد له أكثر فأكثر انّ من يلعب في أمن المجموع الإقليمي وبصورة أخصّ بأمن السعودية ليس سوى صبية حديثي العهد بالسياسة قرّروا أن يكونوا أدوات مجانية بيد الصهاينة ضدّ الجميع بمن فيهم شقيقهم الأكبر…
بين ان نكون او لا نكون، استقلالية القرار وبصيرة الاختيار.