لبنان والعراق: هل يُكرّر التاريخ نفسه؟

13.11.2019

لبنان والعراق بلدان عربيان يمران بمحنة صعبة بسبب الأحداث المُعقّدة التي يعرفها الجميع. إذا تجاهلنا تاريخ البلدين الحديث منذ الاستقلال لنذكّر بما عاشته وتعيشه المنطقة منذ سنوات قليلة، فإن من شأن ذلك أن يُزعِج البعض بسبب قناعاتهم "مُسبقة الدفع"، لكنّ هذا هو أساساً سبب الأزمة في البلدين.
فبعد عام من احتلال أفغانستان أطلق وزير الخارجية الأميركي السابق كولين باول في كانون الأول/ديسمبر 2002 مبادرة ما يُسمّى بـ"الشرق الأوسط الكبير"، وذلك قبل أربعة أشهر من احتلال العراق الذي فتح صفحة جديدة في تاريخ المنطقة عبر مفهوم الإسلام السياسي بشقّيه العقائدي والمُسلّح، والذي نتجت منه القاعدة وطالبان، ومن عقيدتهما لاحقاً ولدت داعش والنصرة وأمثالها في سنوات ما يُسمّى بـ"الربيع العربي".
وجاء إطلاق الفيس بوك (شباط/فبراير 2004) وتويتر (أوائل 2006) ليكونا سلاحاً فعالاً في مجمل الأحداث اللاحقة التي أوصلتنا إلى ما يُسمى بـ"ثورات" الربيع العربي الذي لا يحتاج الى إعادة تقييم بعد كل ما عاشته سوريا والعراق وليبيا واليمن.

ولا داع للتذكير بالمُستفيد الأكبر من هذه الثورات التي دمّرت كل شيء بما فيها القِيَم والأخلاق التي يراهن عليها البعض في شوارع بيروت وبغداد وباقي المدن اللبنانية والعراقية، بعد أن بات واضحاً أن هؤلاء وباستثناء الوطنيين الشرفاء المخلصين منهم، لم يستخلصوا الدروس من كل ما عاشته أوطانهم والمنطقة.
وصدق كاتب النشيد الوطني التركي محمّد عاكف الذي قال:

"يقولون عن التاريخ إنه يكرّر نفسه فلو استخلصت الدروس منه لما كرّر نفسه".
وإذا أراد البعض أن يتجاهل تاريخ بلاده فالتذكير بتجربتيّ أوكرانيا وجورجيا قد يكون مفيداً لمَن يتّعظ من أولئك الذين لا يخفون عداءهم للوطن، حتى إذا تجاهلنا الدين والعِرق والمذهب.

فقد شهدت أوكرانيا أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2004 سلسلة من التظاهرات التي أعقبت الانتخابات الرئاسية على خلفية الحديث عن التزوير والفساد وسوء الأوضاع الاقتصادية. ودعمت أوروبا وأميركا هذه التظاهرات التي نشطت فيها منظمات المجتمع المدني المدعومة من الملياردير الهنغاري اليهودي جورج سوروس. الأخير استفزّ وحرّض الأوكرانيين غرب البلاد من أجل التمرّد ضد روسيا، كما تحرّض جهات اليوم اللبنانيين والعراقيين ضد إيران وكأنها هي المسؤولة عن فساد وسرقات قياداتهم، ناسين أنه لولا إيران التي دعمت حزب الله وسوريا لكانت عصابة "داعش" تحكم الآن في دمشق وبغداد وبيروت.
وهزّت التظاهرات الصاخبة أوكرانيا والعالم فتقرّر إعادة فرز الأصوات لتعلن اللجنة العليا للانتخابات، بعد عملية تزوير واسعة، خسارة المرشّح الموالي لروسيا يانوكوفيتش وفوز فيكتور يوتشينكو، ليكون ذلك أول خسارة لروسيا في لعبة شدّ الحبال مع أوروبا والغرب.

وجاء التكنوقراطي يوتشينكو المُعادي لموسكو ليصبح رمزاً لأوكرانيا الجديدة، وهو ما ساهم في إنجاح الثورة "البرتقالية" التي قيل إنها قامت ضد فساد وهيمنة الأثرياء على مقدّرات الدولة ونهبها.
وبعد خمس سنوات من الثورة فشل يوتشينكو في تحقيق وعوده، فزادت معدّلات الفقر وارتفعت معدّلات البطالة وتفاقم عجز الميزانية وتراجعت معدّلات النمو واستشرى الفساد بشكلٍ خطير.
ومن الرئيس يوتشينكو إلى رئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو التي اعتبرها البعض "جان دارك الثورة البرتقالية"، مرّت البلاد بأحداثٍ سريعةٍ ولكنها صعبة.
وأسفرت التدخّلات الغربية وحال الاستقطاب الدولي عن نتائج مُخيّبة لآمال "الثوريين" في انتخابات شباط/فبراير 2010 بفوز يانوكوفيتش الموالي لروسيا إثر فشل حكومة "الثورة" في إنجاز أهدافها بعد أن عجزت عن مواجهة فساد الطبقة الغنية ورجال الأعمال.

فقد وضع تقرير الشفافية الدولية لعام 2009 أوكرانيا بالمرتبة الـ146 من بين 180 دولة. وكانت أوكرانيا تمتاز بأهمية حيوية بالنسبة إلى أميركا التي تسعى إلى محاصرة منطقة النفوذ الروسي، كما كانت بمثابة الجدار الفاصل بين روسيا وأوروبا الشرقية. وما جعل أوكرانيا منطقة حيوية بالنسبة إلى الأوروبيين هو أن 80% من الغاز الطبيعي الروسي الذي يشكل ربع الاستهلاك الأوروبي يمر من الأراضي الأوكرانية.
أهمية أوكرانيا هذه كانت استقطبت مزيداً من التدخل الأميركي والأوروبي والروسي في هذا البلد الذي عاد إلى دوّامة الأحداث نهاية 2013، وأدى ذلك إلى اشتباكات بين المتظاهرين والجيش، ما دفع الرئيس يانوكوفيتش إلى الهرب من قصره.

جرت الانتخابات في أيار/مايو 2014 وحقق فيها الملياردير بيترو بوروشينكو انتصاره الكبير بفضل ثروته الكبيرة المدعومة من الغرب. فهو رجل أعمال كبير ويُعرَف بملك الشوكولاتة لامتلاكه أكبر مصانع الحلويات والمواد الغذائية وعدد من الشركات في مجال تجارة السيارات والباصات، كما يمتلك أيضاً قناة تلفزيونية ومجلة وموقعاً إخبارياً هاماً وعدداً من الإذاعات.
لم تكن سمعة بوروشينكو وثروته كافيتين لتحقيق الاستقرار وتلبية مطالب الشعب، وأهمها القضاء على الفساد، فعادت التظاهرات من جديد مع بداية 2015 ثم تحوّلت إلى اشتباكات مسلحة بين الشرق الموالي لروسيا والغرب المدعوم من الغرب لينتهي الأمر بتقسيم البلاد، وبالتالي ضم موسكو منطقة القرم إلى روسيا في شباط/فبراير 2017.

وجاءت المفاجأة الكبرى عندما فاز الممثل السينمائي الكوميدي والخبير بوسائل التواصل الاجتماعي فلاديمير زيلينسكي في انتخابات الرئاسة الأوكرانية في نيسان/أبريل من العام الجاري، ليكون بنيامين نتانياهو أول مُهنئ له. وزيلينسكي يهودي الديانة حقق انتصاره بفضل الدعم الذي حصل عليه من اللوبيات اليهودية والأميركية والأوكرانية، ومن بين الذين دعموه الملياردير كولومويسكي الذي يقيم في تل أبيب.
وجاء إعلان الرئيس الجديد زيلينسكي عن نيّته نقل السفارة الأوكرانية في الأراضي المحتلة إلى القدس وتعيين شخصيات يهودية في مناصب هامة جداً في القضاء والجيش والمخابرات، ليلخّص ما حقّقته "الثورة البرتقالية" التي لا تختلف في الجوهر عما حقّقته "الثورة الوردية" في جورجيا من انتكاسات خطيرة.

فقد اقتحم قادة المعارضة ومنهم ميخائيل ساكشفيلي في تشرين الثاني/نوفمبر 2003 مبنى البرلمان الجورجي، ما اضطر الرئيس إدوارد شيفارنادزه إلى الهرب من الباب الخلفي ليعلن تنحيه عن منصبه في اليوم التالي.
وبعد أن أصبح ساكاشفيلي في انتخابات كانون الثاني/يناير 2004 رئيساً للبلاد، بدأ تعاوناً واسعاً مع واشنطن، إضافة إلى اللوبيات اليهودية التي أقنعته بمنح "إسرائيل" قواعد تجسّس على الجارة إيران.
ورغم نجاح "الثورة" في تغيير الرئيس شيفارنادزه ومجيء ساكشفيلي، إلا أنها لم تحقّق أية تغييرات جدية في حياة المواطنين اليومية لاسيما الغلاء والفساد، ما أدى إلى تراجعٍ كبيرٍ في شعبية ساكاشفيلي الذي فاز بولايةٍ ثانيةٍ عام 2008 ولكن بفارق بسيط جداً.

عاد الشعب الجورجي إلى الشوارع لكنّه توقّف في تموز/يوليو 2008 حينما بدأت أوسيتيا الجنوبية بالتمرّد واستنجدت بروسيا فأرسلت الأخيرة جيشها إلى المنطقة التي أعلنت انفصالها عن جورجيا.
واضطر ساكاشفيلي أواسط 2013 للهرب من البلاد إلى أميركا التي يحمل جنسيتها، ثم عيّنه الرئيس الأوكراني بوروشينكو رئيساً لبلدية أوديسا بعد أن منحه الجنسية الأوكرانية بناءً على طلب واشنطن!.
إلا أنه عاد وتمرّد على صديقه وارتبط في علاقات قذرة مع جماعات المافيا فوُضِع في السجن منهياً أحلام "الثورة الوردية" التي انتهت بتقسيم جورجيا، التي انتخب شعبها أواخر العام الماضي سالومي زورابيشفيلي رئيسة للبلاد وهي لا تحمل الجنسية الجورجية كونها ولِدت في باريس لأبوين جورجيين هاجرا في عهد الاتحاد السوفياتي.
المقولة العثمانية تقول "ذاكِرة الإنسان معلولة بالنسيان".

هذه الحال يبدو أنها تصيب شعوبنا أكثر من الشعوب الأخرى. هذا بالطبع إن لم يكن ذوو الذاكرة الضعيفة قد باعوا أدمغتهم وعقولهم وضمائرهم لمَن اشتروا أمثالهم في جورجيا وأوكرانيا.
فالمتواطئ والعميل هو على نفس الطبع، سواء تلبّس لبوس الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي. وإلا كيف ولماذا يُصرّ البعض من اللبنانيين والعراقيين على البقاء في الشوارع وهو يعلم علم اليقين من سبّب المشاكل التي يعانيها ويشكي منها.

مشاكل علاجها في الأساس بسيط جداً: لا تصوّتوا إلى هؤلاء الخونة والعملاء والفاسدين واللصوص في الانتخابات القادمة وأثبتوا وطنيتكم عبر الوقوف إلى جانب مَن وقف إلى جانبكم، ليس فقط بالدولار، بل بالكرامة والشرف والشهامة، والأهم من كل ذلك بالدفاع عنكم وعن أولادكم وأحفادكم ضد كل الأعداء في الداخل والخارج.
قياداتكم هي التي تتآمر عليكم جميعاً من دون التمييز بين مسلم ومسيحي وعربي وكردي وسنّي وشيعي ودرزي، فأنتم جميعاً أبناء هذا الوطن وعليكم ألا تسمحوا للتاريخ أن يكرّر نفسه على حساب دمائكم جميعاً، وحتى لا يفرح المتآمرون وأنتم تعرفونهم.

فكّروا بهدوء، واستخلصوا الدروس والعِبَر، واكتشفوا أساليب جديدة في النضال السلمي، وتخلّصوا من قياداتكم الفاسِدة بعيداً من العقد النفسية.
آن الأوان للتخلّص من هذه القيادات العَفِنة قبل أن تساعد الأعداء على التخلّص منكم جميعاً. لا تنسوا أن الوطن لكم جميعاً، وكما كان منذ آلاف السنين وفياً لكم، كونوا أنتم أوفياء له، لأن الوفاء سِمة النبلاء، ومَن لا وفاء له لا أمان عليه!.