خروج أمريكا من الاتفاق النووي الإيراني يساهم في سقوط الهيمنة الأمريكية وضرب "البترودولار"
لقد بُني القرن الأمريكي، الذي أُعلن عنه في مقالة افتتاحية لمجلة الحياة عام 1941 من قبل المحرر الأمريكي "هنري لويس"، على السيطرة على النفط وعلى سلسلة من الحروب التي لا نهاية لها. واليوم من المفارقات أنه مع إلغاء الرئيس الأمريكي للاتفاقية النووية الإيرانية بشكل غير قانوني ومن جانب واحد، فقد يكون من المتوقع أن يلعب النفط دوراً رئيسياً في سقوط الهيمنة الأمريكية.
إن الخطوات الحديثة والمتنامية التي اتخذتها معظم البلدان للابتعاد عن الاعتماد على الدولار، بحد ذاته غير كافٍ لإنهاء هيمنة الدولار الأمريكي، بسبب قدرة واشنطن على إجبار الدول الأخرى على شراء أو بيع نفطها بالدولار فقط. ولكن كل عمل استفزازي أو عقابي تقوم به واشنطن يجبر دولاً أخرى على إيجاد حلول.
منذ صدمة أسعار النفط عام 1973 في أعقاب حرب أكتوبر، تحركت واشنطن لتضمن أن أوبك، بقيادة السعودية، لن تبيع نفطها إلا بالدولار الأمريكي. كان ذلك ضماناً أن الطلب على العملة الأمريكية يمكن أن يكون مستقلاً بشكل أو بآخر عن الحالة الداخلية للاقتصاد الأمريكي أو الدين الحكومي أو العجز. وكان هذا النظام الذي أطلق عليه "هنري كيسنجر" وآخرون في ذلك الوقت "إعادة تدوير البترودولار" دعامة حيوية لقدرة الولايات المتحدة العالمية على إبراز قوتها في الوقت نفسه الذي سمح لشركاتها الكبرى بالابتعاد عن الضرائب والاستثمارات المحلية، والاستعانة بمصادر خارجية مثل الصين أو المكسيك أو إيرلندا أو حتى روسيا. ولو كانت مجموعة كبيرة من الدول تتخلى عن الدولار وتتحول إلى عملات أخرى أو حتى إلى المقايضة في هذه المرحلة، فإن هذا سيؤدي إلى سلسلة من الأحداث التي من شأنها أن تؤدي إلى زيادات حادة في أسعار الفائدة الأمريكية وأزمة مالية أمريكية جديدة.
هوس العقوبات الأمريكية
منذ الحادي عشر من أيلول 2001، انخرطت حكومة الولايات المتحدة في عملية لتحويل استخدام العقوبات المالية، التي يفترض أنها ضد تمويل الجماعات الإرهابية مثل القاعدة، إلى سلاح مركزي للدفاع عن القرن الأمريكي. إن القرار الأخير الذي اتخذته وزارة الخزانة الأمريكية بفرض أشكال متطرفة جديدة من العقوبات المستهدفة لروسيا، لا يحظر فقط على المواطنين الأمريكيين القيام بأعمال معهم، بل يهدد أيضاً بفرض عقوبات على مواطنين غير أمريكيين يقومون بمثل هذه الأعمال، ويتم الآن اتباع نفس القرار مع إيران.
أعلنت إدارة ترامب التي انسحبت من جانب واحد من الصفقة النووية الإيرانية، أن على الدول الأخرى التي تتاجر بالنفط الإيراني أن تلغي هذه التجارة بحلول تشرين الثاني أو أنها ستواجه عقوبات. كما تستهدف وزارة الخزانة الأمريكية شركات التأمين الدولية أو البنوك الأجنبية التي قد تشارك في تجارة النفط الإيراني.
هذه الأفعال غير المبررة التي تقوم بها أمريكا تجبر الدول الكبرى بما فيها الصين وروسيا وإيران، وربما مع الاتحاد الأوروبي، على الابتعاد عن الدولار بشكل غير مسبوق.
تجارة النفط باليوان الصيني
في آذار من هذا العام أطلقت الصين عقداً مستقبلياً يعتمد على اليوان مقابل النفط. تعتبر اليوم العقود المستقبلية عنصراً رئيسياً في تداول النفط العالمي. وهذا أول عقد نفطي مستقبلي ليس بالدولار الأمريكي. وإن الجهد الأمريكي لمنع إيران من مبيعات نفطها بالدولار قد يعطي دفعة كبيرة لمستقبل نفط شنغهاي، ويتم قبول ما يسميه البعض البترويوان.
والصين هي أكبر مستهلك للنفط الإيراني، حيث تستورد نحو 650 ألف برميل يومياً من إجمالي الصادرات الإيرانية. والهند هي ثاني أكبر مستهلك بحوالي 500 ألف برميل يومياً. كما تحتل كوريا الجنوبية المركز الثالث بحوالي 313 ألف برميل يومياً، وتحتل تركيا المركز الرابع بحوالي 165 ألف برميل، وفقاً لتقرير صادر عن بلومبرج. وهناك احتمال كبير أن تقوم إيران ببيع نفطها بالعملة الصينية، فقد أعلنت مؤخراً رغبتها في أن تكون مستقلة عن الدولار. وإذا كانت الصين ستجعل بيع اليوان شرطاً مسبقاً للاستمرار في بيع النفط الإيراني، فإن هذا سيزيد من استخدام اليوان الصيني في التجارة العالمية بشكل كبير على حساب الدولار.
كما تعد إيران شريكاً استراتيجياً في مبادرة طريق الحرير الصيني. وفي أعقاب العقوبات الأمريكية الأخيرة، هناك تقارير تفيد بأن شركة النفط الفرنسية توتال قد تضطر إلى بيع حصتها الكبرى من حقل فارس الجنوبي للغاز الطبيعي. وذكر مصدر صيني في صناعة الطاقة أن مجموعة النفط الصينية العملاقة CNPC مستعدة للسيطرة على حصة الفرنسيين. وتمتلك توتال حالياً 50.1% وشركة CNPC 30% وشركة النفط الحكومية الإيرانية 19.9%. وقد صرح جون بولتون، رئيس مجلس الأمن القومي في حكومة ترامب والذي دعا في وقت سابق إلى الحرب ضد إيران، أن شركات الاتحاد الأوروبي ستواجه عقوبات أمريكية إذا استمرت في العمل مع الحكومة الإيرانية.
وفي إشارة أخرى إلى العلاقات الصينية الإيرانية المتنامية، فقد أطلقت الصين في العاشر من أيار، خدمة قطارات برية مباشرة تربط منغوليا مع بايانور بنحو 8000 كيلومتر عبر كازاخستان وتركمانستان إلى طهران. يقدر وقت السفر ب 14 يوم أي أقل بحوالي 20 يوم من الوقت اللازم للشحن البحري.
روسيا تتحرك
شاركت روسيا والتي هي ثاني شريك تجاري مهم لإيران في العديد من الاتفاقيات التجارية في إيران في أعقاب الاتفاق النووي الإيراني لعام 2014 ورفع العقوبات. وأعلن الرئيس الروسي بوتين صراحة رغبة روسيا في أن تصبح مستقلة عن الدولار الأمريكي لأسباب أمنية. وكانت التجارة الثنائية بين روسيا وإيران تقوم على أساس المقايضة بدلاً عن الدولار للعديد من المنتجات منذ تشرين الثاني 2017.
وعلاوة على ذلك كان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في موسكو يوم 14 أيار ليناقش مع لافروف مستقبل اتفاقية مشروع الطاقة النووية الروسية وتعهد الجانبان بمواصلة التعاون الاقتصادي. وتشارك العديد من شركات النفط الروسية بالفعل بمشاريع في إيران.
التجارة بين روسيا والصين تبتعد أيضاً عن الدولار، حتى قبل الإلغاء الأمريكي الأخير للاتفاق مع إيران. وتعد الصين حالياً أكبر شريك اقتصادي لروسيا حيث تبلغ حصتها 17%، وهو ضعف حصة ألمانيا. ومن المرجح أن يحدث المزيد من الانخفاض في الاعتماد على الدولار بين البلدين. وفي اجتماع يوم 25 نيسان في شنغهاي أعلن رئيس اتحاد رجال الأعمال الصينين في روسيا أنه ينبغي على الدولتين الابتعاد بشكل متزايد عن الدولار في تجارتهما الثنائية. وقال: "على قادة البلدين التفكير في تحسين العلاقات، خاصة في مجال التعاون المالي. لماذا تسدد المدفوعات بالعملة الأجنبية؟ لماذا الدولار؟ لماذا اليورو؟ ويمكنهم أن يستخدموا الروبل واليوان".
حتى قبل العقوبات الأمريكية على روسيا وإيران، كانت روسيا والصين تبتعدان عن الدولار في تجارتهما الثنائية. وأنشأت روسيا في أواخر عام 2016 عقداً مستقبلياً للنفط تم تداوله في بورصة سانت بطرسبرغ، باستخدام سعر الروبل الخاص بها لتسعير العقود المستقبلية للنفط الروسي.
يقدر حجم التجارة الثنائية بين روسيا والصين ب 100 مليار دولار، بعد أن ارتفعت بنسبة 31% في عام 2107. وتقوم الشركات والبنوك في الدولتين بوضع الأسس لتكون مستقلة عن الدولار.
تم في عام 2017 بالفعل نقل 9% من البضائع الروسية إلى الصين بالروبل. ودفعت الشركات الروسية 15% من الواردات الصينية باليوان. ويتداول بالفعل أكثر من 170 بنكاً روسياً اليوان في بورصة موسكو.
هل سيكون الاتحاد الأوروبي هو التالي؟
في الأيام الأخيرة كانت هناك تقارير تفيد بأن الاتحاد الأوروبي يبحث في إمكانية تداول النفط الإيراني باليورو بدلاً من الدولار. وقد أدانوا الخروج الأحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني من قبل ترامب، ويبحثون عن طريقة للحفاظ على تجارة النفط الإيراني وكذلك الطائرات الكبرى من العقود التكنولوجية التي تهددها الولايات المتحدة. وقالت مسؤولة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي "فيديريكا موغيريني" للصحافة إن وزراء خارجية كل من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيران سيعملون لإيجاد حلول عملية استجابة لتصرف واشنطن في الأسابيع القليلة الماضية.
إذا قام الاتحاد الأوروبي بهذه الخطوة سيهز أسس نظام الدولار.
إن دور الدولار الأمريكي كعملة عالمية رائدة هو حجر الزاوية في قوة واشنطن، إلى جانب قوتها العسكرية. لو حدث التخلي عن الدولار، فإن هذا سيضعف قدرة البنتاغون على شن الحروب والهيمنة باستخدام موارد الدول الأخرى. فكلما زاد الرفض المطلق للعقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على دول مثل الصين وإيران وروسيا وكلما زادت الفرصة بأن يقوم الاتحاد الأوروبي بتقليل الاعتماد على الدولار كلما ضعفت قوة واشنطن بالسيطرة على الدول الأخرى.