جيوبولتيك الطاقة في أوروبا إلى النقطة الحرجة
أصبح جيوبولتيك الطاقة في أوروبا وأمن إمدادات الطاقة إلى الاتحاد الأوروبي موضوعاً حرجاً وموضعاً للخلاف. وتدور آخر التساؤلات حول من سيكون مورداً رئيسياً للغاز الطبيعي إلى أسواق الاتحاد الأوروبي في المستقبل. وتشمل الأطراف الفاعلة الرئيسية في الصراع المتزايد من أجل سوق الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر أكبر أسواق الغاز الطبيعي في العالم، كل من روسيا والنرويج وأذربيجان وقطر ومؤخراً الولايات المتحدة الأمريكية مع الغاز الصخري في ناقلات الغاز الطبيعي المسال. وقررت هولندا التي تعتبر المورد الرئيسي للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي منذ الستينات، أن تحد بشدة من إنتاجها من أكبر حقل غاز تملكه.
في 27 كانون الثاني وخلال اجتماع مع رئيس الوزراء البولندي "موراويكي" في وارسو، قال "ريكس تيلرسون" وزير الخارجية الأمريكي والرئيس التنفيذي السابق لشركة "إكسون موبيل": " إن الولايات المتحدة، مثل بولندا، تعارض خط الأنابيب (نورد ستريم 2). ونرى أن ذلك يقوض أمن واستقرار الطاقة بشكل عام في أوروبا". ويشير (نورد ستريم 2) إلى خط الغاز الثاني تحت البحر والذي يتم بناؤه عبر بحر البلطيق بواسطة شركة "غازبروم الروسية" لمضاعفة طاقة الغاز التي تتدفق الآن من خط (نورد ستريم 1) إلى شمال ألمانيا. وسيقدم (نورد ستريم 2) 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى ألمانيا.
وصرح رئيس الوزراء البولندي "ماتيوس موراويكي" في مقابلة صحفية أنه حث "تيلرسون" على إقناع الرئيس الأمريكي بفرض عقوبات على إكمال خط أنابيب (نورد ستريم 2) الروسي. وقال "موراويكي": "تحدثنا عن (نورد ستريم 2) ونريد إدراجه في برنامج العقوبات الأمريكي، والذي يتضمن جملة من العقوبات ضد روسيا".
ويهدف خطا غاز (نورد ستريم) إلى تجنب تعطيل تدفق الغاز الروسي عبر أوكرانيا الغير مستقرة سياسياً. وعندما ظهر الرئيس الأمريكي بمظهر درامي في وراسو في حزيران 2017 لتعزيز واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي المسال، استلمت بولندا أول ناقلة للغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، وكما أخبر الرئيس الأمريكي البولنديين أن عليهم الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة. وتدفع الولايات المتحدة بولندا ودول أخرى أن تطلب من بروكسل، الذي تعارض روسيا بشدة، أن تتولى المفاوضات مع "غازبروم". وترفض ألمانيا، على الأقل حتى الآن، وتصر على أنها قضية تجارية ألمانيا داخلية. وقعت شركة الغاز البولندية الحكومية "بي جي نيج" في تشرين الثاني الماضي، اتفاقاً مع شركة "سنتريكا" لتلقي تسع شحنات من الغاز الطبيعي المسال بين عامي 2018-2022 من الولايات المتحدة، كجزء من خطتها لخفض الاعتماد على الموارد الروسية.
تحصل بولندا على معظم الغاز الطبيعي اليوم من روسيا، ولكن عندما تنتهي عقودها مع "غازبروم" في عام 2022، فإنها تخطط للانتقال إلى واردات الغاز الطبيعي المسال من قطر والولايات المتحدة وكذلك النرويج. ويمثل منع مشروع خط الغاز (نورد ستريم 2) الألماني، مجازفة كبيرة، وستزيد من حدة التوتر بين بولندا وألمانيا فضلاً عن انعدام الأمن الاقتصادي في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي.
يجب الحد من إنتاج أكبر حقل غاز في الاتحاد الأوروبي
الدعوة البولندية لفرض العقوبات من الولايات المتحدة على مشروع (نورد ستريم) أتت في وقت غير مناسب. فقال منظم الغاز الهولندي، "الإشراف الحكومي على المناجم"، إن إنتاج الغاز من حقل "جرونينجن" العملاق في هولندا يجب أن يُخفّض إلى نصف الإنتاج الحالي، بحد أقصى قدره 12 مليار متر مكعب في السنة وفي أقرب وقت ممكن، للتقليل من مخاطر الزلازل. فقد أدت الزلازل الأخيرة إلى إلحاق أضرار جسيمة بالمنازل هناك. وهذا هو مجرد 25% من الإنتاج في عام 2014. وتفيد الحكومة أن هذا الحقل لن يكون قادراً على إنتاج الغاز خلال 4 سنوات.
حقل "جرونينجن" هو واحد من أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم من حيث الإنتاج منذ الستينات. ويتم إدارة هذا المشروع من قبل شركة "إكسون موبيل"، ولذلك فإن وزير الخارجية الأمريكي يدرك الواقع جيداً، وإن الانخفاض الحاد في الإنتاج يسبب معضلة الغاز في الاتحاد الأوروبي.
وقد هاجم حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بشدة اعتماد الاتحاد الأوروبي على واردات الغاز الروسية، في حين دعمت مجموعات الصناعة الألمانية وغيرها من مجموعات الصناعة في الاتحاد الأوروبي بقوة (نورد ستريم) كبديل مستقر ومنخفض التكلفة للغاز الطبيعي المسال أو واردات الغاز الأخرى. ووفقاً ل "يوروستات" فقد انخفضت حصة روسيا من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي من 34.6% إلى 26.8% بين عامي 2005 و2010. واليوم هو حوالي 29% من إجمالي الواردات. والنرويج والتي هي عضو في حلف شمال الأطلسي هي ثاني أكبر مورد مع حوالي 26%، والجزائر وقطر تعتبر مصادر أخرى للإمداد.
بديل إمدادات الغاز للاتحاد الأوروبي
البدائل الجدية والمستقرة والاقتصادية للغاز الروسي للدول ال 28 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي محدودة. إن استيراد الغاز الطبيعي من الولايات المتحدة الأمريكية أكثر كلفة بكثير من استيراد الغاز الروسي عبر الأنابيب، بسبب تكلفة الناقلات الخاصة للغاز الطبيعي المسال. وتشير التقديرات إلى أن بولندا اضطرت في حزيران الماضي إلى أن تدفع زيادة بنسبة 50% لتسلم الغاز الطبيعي من الولايات المتحدة مقارنة مع الغاز الروسي. إن الغاز الروسي الذي تتلقاه بولندا حالياً عبر خطوط الأنابيب التي تعود إلى العهد السوفيتي والتي تمر عبر أوكرانيا غير مستقر. واعترف وزير الطاقة الأوكراني " إيجور ناساليك" في الصيف الماضي أن البلاد قريباً لن تتمكن من ضمان نقل الغاز الروسي إلى أوروبا بسبب تدهور حالة نظام نقل الغاز. واتهم "ناساليك" شركة النفط والغاز الحكومية الأوكرانية "نافتوغاز" برفض الاستثمار في نظام نقل الغاز في البلاد. على أية حال، ينتهي العقد بين شركتي "غازبروم" و "نافتوغاز" في كانون الأول من عام 2019، وأعلنت روسيا انها لن تجدد هذا العقد. ويجب أن تتحسن حالة الطاقة في الاتحاد الأوروبي بحلول ذلك الوقت، وإلا سيواجه الاتحاد أزمة الإمدادات.
وبصرف النظر عن احتمال اعتماد نقل الغاز الأمريكي المسال لسد حاجة الاتحاد الأوروبي بدلاً من الغاز الروسي، فإن الخيارات الأخرى التي يتم النظر فيها في بروكسل هي أكثر خطورة.
أحد الخيارات الممكنة للغاز الروسي هو خيار تدعمه مفوضية الاتحاد الأوروبي، وهو ممر الغاز الجنوبي الأذربيجاني، وهو مشروع تدعمه واشنطن أيضاً لنقل الغاز من حقل "شاه دينيز" في منطقة بحر قزوين عبر أذربيجان، جورجيا، تركيا، إلى اليونان وألبانيا وإيطاليا وجنوب أوروبا. ويحتاج هذا المشروع خط أنابيب بطول 3500 كيلومتر بتكلفة باهظة تقدر بقيمة 42 مليار دولار. وعلى العكس تماماً فإن (نورد ستريم) سيكلف 9.5 مليار دولار، ولا يعتمد على بلدان غير مستقرة سياسياً مثل جورجيا وتركيا التي لديها نزاعات مع الاتحاد الأوروبي.
تم التعاقد مع منصة الغاز الأذربيجانية من "شاه دينيز 2" لتسليم 6 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً إلى تركيا بحلول عام 2020. ومن المتوقع أن تصل المرحلة الثانية من "شاه دينيز" إلى 16 مليار متر مكعب بحلول عامي 2024 و2025، حيث ستنقل الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي بما في ذلك اليونان وبلغاريا وإيطاليا اعتباراً من عام 2020. إن الغاز الأذربيجاني المنقول إلى الاتحاد الأوروبي هو عداد كبير بالنسبة لمشروع غازبروم التركي. المشغل الرئيسي لشاه دينيز لديه اتفاقيات توريد مع الشركات الأوروبية التي يبلغ مجموعها 10 مليار متر مكعب سنويا اعتبارا من عام 2020. أول نقل للغاز إلى جورجيا وتركيا من المقرر أن يبدأ في أواخر عام 2018.
يواجه خيار الغاز الأذربيجاني خطر أن تمارس "غازبروم" قوتها الضخمة واحتياطاتها الغازية الوفيرة لشن حرب أسعار على الغاز الأذربيجاني. وقالت "أنطونيا كوليباسانو" محللة الطاقة الروسية لدى الولايات المتحدة الأمريكية، أن "غازبروم" يمكن من الناحية النظرية أن تقدم كميات كبيرة من الغاز الطبيعي دون تكلفة إلى البنية التحتية العابرة عبر تركيا واليونان لمجرد منع الغاز الأذربيجاني وأي غاز آخر من الوصول إلى السوق الأوروبية. وتنتج روسيا حوالي 500 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً وتزود الاتحاد الأوروبي بحوالي 161 مليار متر مكعب أي 34% من احتياجاته الغازية.
وإسرائيل أيضاً؟
اتبع مسؤولو الاتحاد الأوروبي بديلاً آخر للغاز الروسي في نيسان من عام 2017، وذلك بالتعاون مع إسرائيل وقبرص. فقد اجتمع ممثلو حكومة إسرائيل وقبرص مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي في تل أبيب في نيسان من العام الماضي لبحث تطورات ما يسمى "بخط أنابيب شرق المتوسط"، والذي يمتد من حقول الغاز القبرصية والإسرائيلية البحرية عبر خط الأنابيب إلى اليونان والاتحاد الأوروبي. سيعمل خط انابيب شرق المتوسط للغاز الطبيعي (إيست ميد) على مسافة 1300 كيلومتر في المياه و600 كيلومتر على اليابسة. بدءاً من إسرائيل مع نقاط خروج من قبرص وكريت واليونان. وأعلنت لجنة الاتحاد الأوروبي بشكل مفاجئ أنها تفضل خط أنابيب شرق المتوسط الإسرائيلي كبديل لخط أنابيب (نورد ستريم 2) الروسي.
وسيتم إكمال خط الأنابيب هذا بحلول عام 2025، لنقل ما يصل إلى حوالي 16 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً إلى اليونان وغيرها من أسواق الاتحاد الأوروبي. وسيكون أحد أطول أنابيب نقل الغاز تحت الماء. وهناك مشكلة واحدة فقط في حلم بروكسل باستبدال نورد ستريم مع بخط الغاز الإسرائيلي، وهي أن الخطوط الإسرائيلية ليست مجدية اقتصادياً. وبغض النظر عن حقيقة ان هناك خلافاً متزايداً بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل بالنسبة لفلسطين، والاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل وهو أمر رفضته كل دول الاتحاد الأوروبي، فإن اقتصاديات خطوط الأنابيب الإسرائيلية ليست تنافسية على الإطلاق في سوق الغاز الحالي. ويقول "تشارلز إليناس" خبير الطاقة في مجلس حلف شمال الأطلسي: "مع توقع نوبل لتكلفة قدرها 4.5 دولار لكل وحدة حرارية في المنصة، فإن إضافة تكلفة خطوط الأنابيب والتسييل والنقل إلى أوروبا ستأخذ دائماً سعر فوق نطاق السوق الأوروبية".
وهذا لم يؤخذ بعين الاعتبار التوترات السياسية والجيوسياسية الضخمة في شرق البحر المتوسط. ولم تتوصل إسرائيل بعد إلى اتفاق رسمي مع قبرص لتحدد المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما، وهو أمر مهم لخط الأنابيب التعاوني. وتعارض تركيا بشدة عمليات الحفر في الجزء اليوناني من قبرص. "أفروديت" حقل الغاز المكون لخط أنابيب شرق المتوسط المقترح والذي يمتد إلى الحدود الاقتصادية الخالصة بين قبرص وإسرائيل. ودون الاتفاق على من يملك أي جزء من "أفروديت" لا يمكن التقدم بخطط التنمية. وقد فشلت إسرائيل وقبرص في الوصول إلى اتفاق خلال سنوات من المحادثات.
إن ما يقوم به الاتحاد الأوروبي هو محاولة سياسية سخيفة لاحتواء مورد غاز مستقر واقتصادي بالنسبة لها، على حساب اقتصادها وأمن الطاقة الخاص بها. إن الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة إلى بولندا وغيرها من أسواق الاتحاد الأوروبي هو أكثر كلفة، وإن خط غاز "شاه دينيز 2" في أذربيجان، لا يمكن في الوقت الراهن أن يحل محل الغاز الروسي في سوق الاتحاد الأوروبي. وإن حلم خط أنابيب الغاز بين إسرائيل وقبرص الذي دعا إليه مفوض الاتحاد الأوروبي غير قابل للاستمرار من الناحية المادية.
مع اضطرار هولندا إلى خفض إنتاج الغاز من حقل "جرونينجن" العملاق يجب أن تكون أولويات الاتحاد الأوروبي أهم من مجرد منع الغاز الروسي بأي ثمن. كان العمل الغير قانوني لشركة الغاز الحكومية الأوكرانية في عام 2009 هو الذي تسبب بقطع الغاز الروسي عن الاتحاد الأوروبي وليس "غازبروم". وكانت هذه حيلة جيوسياسية مستوحاة من الولايات المتحدة لإضعاف العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي. وحتى في ذروة الحرب الباردة بين الشرق والغرب لم تقطع "غازبروم" الغاز عن أوروبا أبداً.