حرب عالميّة غير مسبوقة على رمال سورية الحارقة

05.06.2017

البادية السوريّة هي المكان الوحيد في العالم الذي تتقاتل على رماله كلّ القوى الدولية والإقليمية الطامحة إلى الإمساك بكامل المشرق العربي واحتلال دور عالميّ. وإذا كانت الأزمات المنتشرة في الإقليم لا يتورّط في الواحدة منها أكثر من قوّتين إلى جانب المكونات الداخلية، فإنّ كلّ هؤلاء المتدخّلين في أزمات الإقليم المتنوّعة من ليبيا إلى مصر، فاليمن والعراق والبحرين والصومال موجودون في سورية، ومعظمهم بشكل عسكري مباشر، وقلّة منهم يوجدون عبر تنظيماتهم المسلّحة الداخلية.

تكفي الإشارة إلى تورّط كلّ من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا و«إسرائيل» والأردن وتركيا بشكل مباشر، مقابل تصدّي روسيا وإيران وحلفائهما إلى جانب الجيش السوري. أمّا البلدان المتورّطة تمويلاً وتسليحاً، فهناك السعودية وقطر وبقيّة بلدان الاتحاد الأوروبي، من دون نسيان دول أوروبا الشرقية السابقة التي تبيع السلاح بواسطة الوسطاء الخليجيين والغربيين إلى المنظمات الإرهابية في سورية والعراق.

يبدو أنّ الخلفيات المبرِّرة لهذا الاهتمام وجيهة، لأنّ الأزمة السورية ليست مجرّد تناحر داخلي على السلطة بقدر ما تمتلك شكل صراع دوليّ على تراتبيّة القوى الأولى في العالم، وتختزن أيضاً قتالاً إقليمياً عنيفاً بين تركيا وإيران، إلى جانب عكسها لاهتمامات خليجية و«إسرائيلية» بتدمير الدول الوطنية المعادية لأنظمة القرون الوسطى والكيان المستولي على فلسطين المحتلة.

هذا الكيان الذي تجرّأ وللمرة الأولى على عقد جلسة لحكومته عند حائط البراق المقدّس عند المسلمين، والتابع للمسجد الأقصى، وسط صمت عربي وإسلاميّ مطبق.

أمّا الجانب الداخلي للأزمة فهو الأكثر ضعفاً، لأنّ الضغط الخارجي المربع الأميركي «الإسرائيلي» السعودي التركي دفع بعشرات آلاف الإرهابيين من الخارج إلى الداخل السوري، ضاخّاً كمياتٍ هائلة من الأموال بين السوريّين النازحين لشراء ولاءاتهم.

لذلك تبدو البادية السورية نقطة الجذب الأساسيّة لصراع هذه القوى بشكل عسكري مفتوح ابتدأ بتراشق محدود، منذراً بمجابهات أوسع، لأنّ الدولة السورية وحلفاءها استطاعوا بالقوّة العسكرية تدمير مشروع إسقاط الدولة السوريّة الذي عملت عليه واشنطن والرياض وأنقرة سنوات خمس، انتهت بتحرير حلب وتوسيع نطاق حماة وحمص ودمشق، وبذلك اختتم نظام الرئيس بشار الأسد مشروع إسقاط الدولة بتثبيتها.

هذا ما دفع بالأميركيين إلى الانتقال من مرحلة إسقاط الدولة إلى مرحلة تقسيمها، وهذا لا يكون إلا بالسيطرة على بادية الشام من مدينة الطبقة التي سيطرت عليها قوات كردية حليفة لأميركا، وحتى الحدود السورية مع العراق، أي من الوسط إلى الجنوب، تمهيداً لإعلان مناطق حرّة ومحمية بذريعة إسكان النازحين ومموّلة من الخليج، وهذه المحميات قابلة للتحوّل دويلات مع استمرار الدعم الخليجي.

وتأمل السياسة الأميركية أيضاً من السيطرة على بادية الشام، السماح بإعلان منطقة كردية مستقلّة في الشرق، مع كيان في منطقة إدلب بإشراف تركي مجاور لمنطقة سورية تخضع للاحتلال المباشر للجيش التركي. وهكذا يمكن للبادية السورية أن تتزنّر بمناطق تركية وكردية وكانتونات «أميركية» و«إسرائيلية»، بالإضافة إلى مجاميع إرهابية يتمّ طردها من الرقة والطبقة ودير الزور لتقف في وجه القوات السورية وحلفائها، فتعطّل حركتها في البادية التي أصبحت لؤلؤة الحرب السوريّة.

ولأميركا أهداف أخرى تتمركز حول تعطيل الدورين الروسي والإيراني في بادية الشام، وذلك بقطع الطريق من روسيا «بحر قزوين» إلى إيران والعراق وسورية… وهم أهمّ خط في «الشرق الأوسط» يمكن له احتواء كلّ أهميات المنطقة، وذلك من طريق التماس من العراق مع الخليج وتركيا من جهة وسورية والعراق وفلسطين المحتلة، من ناحية لبنان وسورية، ويصبح الأردن بدوره ممسوكاً لأنّه يصبح عاجزاً عن أداء وظائف في خدمة الحلف الغربي.

لجهة إيران، فإنّ لها وزن الخطر الروسي نفسه على السياسة الأميركية، وربما أكثر كما تقول دراسات أكاديمية أميركية، لأنّها تجابه واشنطن في أثير لديها، وهو العالم الإسلامي الذي لم تتجرّأ دولة واحدة فيه على مناصبتها العداء. إيران فقط شكّلت استثناءً شجاعة على قاعدة الانهزام والاستتباع في العالم الإسلامي. وهل تجرّأ «شيخ» إسلامي قبل السيد حسن نصرالله على إعلان التصدّي للمخطّطات الأميركية و«الإسرائيلية» منفّذاً ما يؤمن به بشكل عسكريّ في سورية والعراق وربما مناطق أخرى!

لذلك ترتدي بادية سورية أهميّات لمختلف الأفرقاء، فإذا كانت واشنطن تريد لجم موسكو وطهران، فإنّ روسيا مصرّة على النفاذ إلى فضائها السوفياتي السابق في محاولة لاسترجاع مكانتها من خلال رمال «البادية» الحارقة، وذلك لنزع المعوّقات التي تعترض درب الاتصال مع البلدان الحليفة لها.

وكذلك إيران الموجودة في البادية بطريقة مباشرة وعبر حلفائها في حزب الله والتنظيمات الإقليمية..

البادية إذن هي نقطة احتراب ساخنة بين كلّ القوى العالمية المختلفة التي تريد تمرير مشاريعها السياسية، والملاحظ أنّ لغة التفاهمات السياسية تميل إلى التراجع مقابل تقدّم لغة الميدان… وها هي واشنطن تعلن أنّها استكملت بناء منظومة عسكرية مع بريطانيا وفرنسا في منطقة التنف على مقربة من الحدود السورية العراقية، ولم تُخفِ «إسرائيل» عملها إلى جانب مجموعات تزعم أنّهم معتدلون سوريّون على مقربة من حدود الجولان السوري المحتل مع فلسطين المحتلة. أمّا «الشقيق» الأردن، فيخترع تشكيلات عسكرية يطلق عليها لقب «أسود العشائر»، التي لا تضمّ عملياً إلا مجموعات كبيرة من فِرق النخبة في الجيش الأردني، ومعها بضع مئات من رجال عشائر يقبضون رواتب مذهلة من التمويل القطري السعودي.

وكيف لا تفاجئنا «إربد» التي صدر منها أمس شرائط أفلام عن مجموعات سوريّة عسكرية تتدرّب وهي تصرخ «يحيا أردوغان»! وللتذكير، فإنّ أردوغان هو تركي يحمل مشروع إعادة بناء الدولة العثمانية، أيّها الإخوانجية المسلمون؟ وليس مشروع دولة إسلامية يُفترض أن تقوم على الشورى…

ولمزيد من تعقيد مشهد البادية، تُعيد الدولة التي تدّعي محاربة الإرهاب تنظيم فلول الإرهاب ليعاونها على سورية وحلفائها. وهكذا يتبيّن بشكل واضح أنّ أطراف الحرب في البادية يتحضّرون لمعارك أكبر في سبيل تحقيق مشاريع سياسية ذات طابع دولي وإقليمي. أمّا الطرف الوحيد الذي يتنكّب مشروع إنقاذ الدولة، فهو الجيش العربي السوري الرافض للمساومات كلها.

ومن الطبيعي عندما تزدحم القوى المتناقضة في جغرافيا ضيّقة، أن تعلو صيحات الحرب وتندلع المعارك التي لا بدّ أن تكون شرسة، لأنّ الجيش السوري مع حلفائه مدعومون من البادية التي تستعدّ لطمر الإرهاب وصانعيه وداعميه في رمالها الحارقة.