هل سينتقل التنسيق التركي الروسي من سوريا إلى ليبيا
تغيّر مسار العلاقات التركية الروسية بشكلٍ كبيرٍ على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية بعد 27 يونيو/حزيران 2016 حين أعلن الكرملين اعتذار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنظيره الروسي الرئيس فلاديمير بوتين عن قيام الطيران التركي بإسقاط المقاتلة الروسية قرب الحدود السورية التركية في تشرين الثاني/نوفمبر2015، ودعا حينها أردوغان إلى "إصلاح العلاقات بين تركيا وروسيا".
تختلف المصالح الإستراتيجية والرؤى السياسية للبلدين فيما يخص سورية والشرق الأوسط عموماً وتكاد تكون متناقضة إلى حدٍ بعيد في بعض المسائل، لكن بعد اعتذار تركيا من روسيا بدأت العلاقات السياسية تتحسن بين البلدين بشكلٍ متسارع، وسعت الدولتان إلى إنشاء مسارات سياسية ودبلوماسية لحل الملفات المُعقدة والشائكة فيما يتعلق بالأزمة السورية، نتج عن هذا التعاون مسار أستانا الطويل وجولاته العديدة بدعم من البلدين ومؤتمر سوتشي، كما شهدت الأربع سنوات الماضية العديد من اللقاءات السياسية والدبلوماسية بين ممثلي البلدين في محاولة منهم لبحث وتعميق العلاقات الثنائية المشتركة.
أعلن الرئيس التركي أردوغان عام 2017 شراء منظومة الصواريخ إس-400 من روسيا بعقد هو الأكبر بين البلدين لأغراض مرتبطة بالأمن القومي لتركيا، في الأشهر الأخيرة بدأت موسكو تسليم منظومة الصواريخ إلى أنقرة رغم استنكار ورفض الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الصفقة باعتبار تركيا عضو في الناتو فلا تحتاج إلى هذه المنظومة للحفاظ على أمنها القومي.
على الرغم من التفاهمات المهمة بين موسكو وأنقرة في كثير من القضايا في ما يخص سورية إلا أن الكثير من المراقبين يرون بأن هناك تناقض في المصالح والمواقف في بعض القضايا الإستراتيجية في الشرق الأوسط ومنها ما ظهر أخيراً في الأزمة المُستعرة في ليبيا بين حكومة الوفاق الوطني من جهة وقوات المشير خليفة حفتر من جهة أخرى.
طلبت حكومة الوفاق الوطني في ليبيا بقيادة فايز السراج الجمعة في 27 ديسمبر/كانون الثاني المساعدة العسكرية من تركيا في مواجهة قوات المشير خليفة حفتر التي تسيطر على مساحات كبيرة جنوب شرق ليبيا، ويستعد البرلمان التركي للتصويت على التدخل العسكري في 8 و9 كانون الثاني/ يناير تمهيداً لعملية عسكرية لدعم حكومة السراج التي وقعت مذكرتي تفاهم مع تركيا في 27 نوفمبر/تشرين الثاني خلال اللقاء بين السراج وأردوغان في أنقرة لتنسيق التعاون العسكري بين البلدين من الناحية الأولى وما سمي بترسيم السيادة البحرية بين ليبيا وتركيا من الناحية الثانية.
تقاسم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا يسمح لتركيا باستخراج الغاز من قسمها البحري على الرغم من معارضة مصر واليونان وقبرص الجنوبية، كما يشكل عائق في وصول أنابيب الغاز من البحر الأبيض المتوسط نحو أوروبا دون موافقة ليبيا وتركيا، ويساعد تركيا في التحكم في ملفات الطاقة وأنابيب الطاقة شرق المتوسط.
كما أن التدخل العسكري التركي قريباً إذا ما صادق البرلمان التركي عليه، سيكون أداة مباشرة للتحكم في الملف السياسي الليبي، وستتزعم أنقرة قائمة الدول الرابحة في ليبيا في حال تمكنت من الانتصار على قوات المشير حفتر أو في حال إجبار الأطراف المتحاربة على إبرام تسوية لحل الأزمة الليبية، وستستغل أنقرة الملف الليبي كورقة رابحة وفارقة في سياستها الخارجية في السنوات القادمة إذا ما نجحت في تحقيق أهدافها رغم تعقيدات الصراع الليبي وتناقضاته الداخلية والخارجية الكثيرة.
لم تقبل مصر واليونان وقبرص توقيع مذكرة التفاهم بين تركيا وليبيا، كما طردت اليونان السفير الليبي بعد التوقيع، كما أن مصر تؤيد قوات المشير حفتر وتنظر إلى مسألة ليبيا باعتبارها أزمة تهدد الأمن القومي المصري، وتعتبر أن حفتر يقود جيش حقيقي يسيطر على مساحات كبيرة من البلاد ويؤمن الحدود الطويلة مع مصر، كما أن الكثير من المراقبين يرون بأن هناك عداء مُبطن بين مصر وحكومة الوفاق الوطني الليبية بسبب التوجهات الإيديولوجية لحكومة الوفاق المرتبطة بالإخوان المسلمين، وكذلك يربطون دعم قطر وتركيا لحكومة الوفاق بنفس السبب.
ينقسم المشهد الدولي في ليبيا بين دول مؤيدة للمشير حفتر كتركيا وقطر ودول الإتحاد الأوروبي ودول تؤيد حكومة الوفاق على رأسهم مصر والإمارات العربية المتحدة وفرنسا ودول تعلن دعمها للمشاوارات والحوارات بين الطرفين كروسيا ودول طالبت المشير حفتر بإيقاف الهجوم على طرابلس بشكل رسمي كالولايات المتحدة الأمريكية.
يرى مراقبون أن روسيا تميل إلى جانب المشير حفتر نظراً لوجود بعض الشركات الروسية إلى جانب قواته، لكن هذه الشركات غير مرتبطة بالحكومة الروسية بشكلٍ رسمي، كما أن الموقف الرسمي الروسي أكد على أنه يدعم الوصول إلى حل سلمي بين حكومة الوفاق الوطني المُعترف بها دولياً وقوات المشير حفتر، كما دعت روسيا إلى تجنب إراقة المزيد من الدماء في ليبيا والوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف.
يلعب الموقع الإستراتيجي الخاص بليبيا أهمية استراتيجية بالغة نظراً لأنه يشكل نافذة كبيرة على البحر المتوسط الذي يعتبر مدخل استثنائي ومباشر نحو أوروبا، كما أن الثراء الليبي في النفط والغاز يجعلها دولة بالغة الأهمية والغنى في القارة الإفريقية، وعلى الأرجح أن هذا النوع من الدول يجذب التدخلات الدولية إليه بصورة مهولة وغالباً ما يساهم التدخل الدولي في تغذية الصراعات وإشعالها أكثر وليس في حلها.
من الواضح أن تركيا قد قررت المضي قدماً في دعم حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة والتدخل العسكري التركي مسألة وقت ليس أكثر، كما يبدو أن روسيا إلى الآن ترغب وتدعم حل سلمي للأزمة الليبية، لكن في الحقيقة لا أحد يعرف بالضبط كيف ستتطور الأزمة في ليبيا في الأيام القادمة وكيف ستكون مواقف الدول من هذا التطور، لكن يرى بعض الإستراتيجيون أن موسكو ترغب في بناء علاقات جيدة في المستقبل مع ليبيا نظراً لأهمية ليبيا الأستراتيجية خصوصاً بعد أن رسخت موسكو وجودها ووضعأت موطئ قدم جيواستراتيجي شرق المتوسط في سورية.
أنقرة تريد أن توجه ضربة استباقية لخصومها في ليبيا عن طريق دعم حكومة السراج وتحقق مكاسب استراتيجية بعد تداعي مشروعها في سورية بينما روسيا تراقب تغيرات الأزمة الليبية بهدوء لأنها لا تستطيع أن تتخلى عن ليبيا نظراً لطبيعة ليبيا الجيواستراتيجية في الشرق الأوسط، كما أن ليبيا دولة حساسة في ما يخص مستقبل ملفات الطاقة في العالم وهذا الجانب مهم جداً بالنسبة لموسكو.
على الرغم من تعقيدات الأزمة السورية في السنوات الماضية لكن موسكو وأنقرة تمكنتا من إيجاد قنوات دبلوماسية وسياسية فعالة للنقاش والحوار والتفاوض حول بعض الملفات العالقة في الأزمة السورية، وهذا مؤشر على أن البلدين يمكنهما التفاهم في ما يتعلق بالأزمة الليبية الداخلية في الفترة الحالية ومستقبلاً بالمشاركة مع الأطراف الداخلية والدول الفاعلة في الأزمة كمصر والإمارات وقطر.