في ذكرى وفاة الرئيس هواري بومدين: الجزائر إلى أين؟
في يوم 27 ديسمبر 1978، توفي ثاني رئيس للجزائر المستقلة، وهو الرئيس هواري بومدين بعد صراع طويل مع مرض غريب لازلنا لحد اليوم لا نعرف حقيقته. توفي بومدين الذي كان واحدا من الذين ساهموا في تحرير الجزائر واسترجاع سيادتها، وكان أبرز قادة جيش التحرير الوطني الذين تركوا بصماتهم في بناء النظام السياسي الذي يحكم الجزائر منذ سنة 1962 إلى اليوم.
بومدين الذي ينحدر من عائلة فقيرة أوصلته الظروف وذكاؤه وحنكته إلى قيادة أركان جيش التحرير الوطني ثم لعب دورا حاسما في تولي أحمد بن بلة رئاسة الدولة ويكون وزيره للدفاع الوطني. لكن مع حلول سنة 1965 توترت العلاقات كثيرا بين بومدين وبن بلة انتهت بانقلاب الوزير على الرئيس في 19 يونيو/حزيران 1965، معلنة عن بدء عهد حكم هواري بومدين للجزائر.
قد لا يتفق معي الكثير إن قلت أن بومدين كان رئيسا استثنائيا وليس كباقي الرؤساء الذين حكموا الجزائر، وقد يتهمني البعض أنني أبجله كثيرا وأفرط في مدحه. إن بومدين هو الرئيس الوحيد الذي حكم فعلا في الجزائر، وهو رئيس استثنائي لأن هناك أجيالا من الجزائريين لم يحظوا بفرصة العيش في زمنه ولكنهم يذكرونه ويحنون إلى زمنه.
إن بومدين هو رئيس استثنائي لأنه اتخذ أصعب القرارات الإستراتيجية في الوقت المناسب، وبفضله استكملت الجزائر استقلالها واستعادت سيادتها على مواردها النفطية، انه قرار تأميم المحروقات في 24 قبراير/شباط 1971. في زمن بومدين أنفقت الدولة الجزائرية 25 مليار دولار فقط لكنها أنجزت العديد من المؤسسات التربوية والتعليمية، والجامعات، والطرق، والسكك الحديدية، والمطارات...الخ. إضافة إلى انجاز العديد من القرى الاشتراكية والمصانع أبرزها مركب الحجار للحديد والصلب، وفي زمن بومدين كان المستوى التعليمي والجامعي راقيا، وكانت المنظومة الصحية راقية بل إن مجمع صيدال كان من أبرز المجمعات المصتعة للدواء. وفي عهد بومدين كانت الجزائر بدون مبالغة في نفس المستوى الاقتصادي مع اسبانيا وأحسن من كوريا الجنوبية.
في زمن بومدين تألقت الدبلوماسية الجزائرية وعاشت عصرها الذهبي، كانت الجزائر قبلة للحركات الثورية، وكان صوت الجزائر حاضرا في مختلف المحافل الدولية والإفريقية والعربية والإسلامية بل إن الجزائر كان صوتها مسموعا ويخشى غضبها. إن بومدين هو أول رئيس تكلّم في الأمم المتحدة باللغة العربية، وهو الذي كانت له رؤية إستراتيجية عندما قام بإجراء الصلح بين العراق وإيران، وفي زمنه بادرت الجزائر للمطالبة بنظام اقتصادي عالمي جديد يضمن حقوق الدول المتخلفة والسائرة في طريق النمو.
بعد وفاة هواري بومدين انتقلت الجزائر إلى حكم الشاذلي بن جديد الذي انتهى بإلغاء الاشتراكية والمبادرة بالانفتاح الاقتصادي على السوق الدولية على اثر أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988، وفي نفس الوقت تم التخلي عن الأحادية الحزبية وإقرار التعددية الحزبية وصياغة دستور سنة 1989 على أساس الفصل بين السلطات. لكن الأزمة الاقتصادية وسوء إدارة الإصلاحات السياسية في تلك الفترة أفرزت نتائج معاكسة لتوقعات صناع القرار الفعليين في الجزائر، فاستقال الشاذلي بن جديد من رئاسة الدولة وتم توقيف المسار الانتخابي في يناير/تشرين الثاني 1992. وقد أدى هذا الأمر إلى فراغ مؤسساتي وتداول ثلاثة رؤساء على الحكم خلال التسعينيات (محمد بوضياف الذي تم اغتياله يوم 29 يونيو/حزيران 1992، وبعده جاء علي كافي الذي تولى السلطة لسنة ونصف فقط، ليأتي بعده اليمين زروال ما بين 1994-1999 ولم يكمل عهدته الرئاسية). وقد تزامن ذلك مع دخول البلاد في دوامة من العنف والصراع والإرهاب، دامت عشرية من الزمن مخلفة حوالي 200 ألف قتيل وخسائر اقتصادية فاقت 20 مليار دولار وتشوه صورة الدولة الجزائرية على المستوى العالمي.
فأين أنت اليوم يا جزائر من زمن بومدين؟
منذ مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم في أبريل/نيسان 1999 وخلال عهداته الأربع المستمرة إلى يومنا هذا، أنفقت الدولة الجزائرية حوالي 1000 مليار دولار بفضل ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية. ونتيجة لذلك تمكنت الدولة من انجاز الكثير من المشاريع في السكن والتعليم والصحة والبنية التحتية...الخ. لكن رغم ذلك لم نصل بعد إلى التنمية المنشودة، فتلك المشاريع غلب عليها الطابع الشعاراتي مثل الطريق السيار شرق غرب الذي سمي بمشروع القرن، ومشروع مليون سكن، وغيرهما.
إن الإحصائيات الرسمية تشير إلى أن 98 بالمائة من صادرات الجزائر تأتي من المحروقات، وأن الزراعة لا تساهم في الصادرات إلا بنسبة 0.6 بالمائة في حين تساهم الصناعة بنسبة 0.8 بالمائة فقط. أما السياحة فحدّث ولا حرج، فعلى الرغم من كون الجزائر تشكل بلدا قارة إلا أنها لا تستقطب إلاّ 2 مليون سائح سنويا في أحسن الأحوال. والأهم من ذلك، مازال الريع النفطي يساهم بنسبة 60 بالمائة من ميزانية الدولة، ومازال نمو الناتج المحلي مرتبطا بقطاع المحروقات.
وفي الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار النفط ما بين 2004-2014، ارتفعت قيمة الواردات لتصل إلى حوالي 60 مليار دولار سنويا. فالجزائر مازالت تستورد 70 بالمائة من احتياجاتها الغذائية، وتستورد ما بين 1.5 إلى 2.5 مليار دولار من الأدوية، وأكثر من 1 مليار دولار حليب، و12 مليار دولار أسلحة، وتستورد سنويا 4 مليار دولار من مشتقات المحروقات، وفي إحدى السنوات بلغت وارداتها من السيارات 6 مليار دولار.
كل هذه المؤشرات تؤكد أن ما تم تحقيقه خلال السنوات الماضية لا يرقى إلى مستوى التنمية الحقيقية والمستدامة لأن الديناميكية الاقتصادية في الجزائر تعتمد على الإنفاق العام بواسطة الريع النفطي وليس الاستثمار المنتج للثروة. فبمجرد انخفاض أسعار النفط خلال 2015-2016، تم توقيف العديد من المشاريع، وتوقيف عملية التوظيف في بعض القطاعات العمومية وتقليصها في قطاعات أخرى في محاولة لترشيد النفقات وتطبيق سياسة التقشف.
في ظل هذه المعطيات تطرح تساؤلات كثيرة حول مستقبل الجزائر اقتصاديا، وسياسيا:
على المستوى الاقتصادي، تشير المعطيات إلى أن أسعار النفط ستبقى في حدودها الدنيا ولن تتجاوز 60 دولار للبرميل خلال السنوات القادمة، ومن المستبعد جدا أن تعود إلى مستوياتها العليا في حدود 120 دولار لبرميل. وهذا يعني أن الجزائر مقبلة على سنوات من سياسة التقشف وترشيد النفقات، وهنا سيتم الاستمرار في تقليص عملية التوظيف أو التوقف عنها في قطاع الوظيفة العامة، وستستمر الحكومة في وقف انجاز مشاريع معينة أو إلغائها كلية، وستحاول التقليص في الواردات. ولهذا فإن سياسة التقشف ستضع السلطة الحاكمة في معادلة صعبة التحقيق، فمن جهة لم تعد لها القدرة على الإنفاق بنفس الحجم الذي كانت تنفقه في سنوات البحبوحة المالية، ومن جهة أخرى هي مطالبة بالمحافظة على السلم الاجتماعي. كما أن السلطة ستجد نفسها مجبرة على إرضاء الجماعات الزبائنية المرتبطة بها، والتي تعودت على أخذ حصتها من الريع النفطي، والمقصود هنا جماعات المصالح التي تزايد عددها ونفوذها.
علاوة على ذلك، ستلجأ السلطة الحاكمة إلى إستراتيجية إلهاء المواطنين بقضايا هامشية في محاولة منها لربح الوقت في انتظار عودة ارتفاع أسعار البترول. وكذلك ستلجأ إلى مساومة المواطنين الرافضين لاستغلال الغاز الصخري في جنوب الجزائر. وهذا يعني أن الحكومة ستعمل كل ما في وسعها لفرض الأمر الواقع على الجزائريين والقبول باستغلال الغاز الصخري إن أرادوا المحافظة على سياسة الدعم الاجتماعي.
على المستوى السياسي، يجب التنويه بقدرة النظام الحاكم في الجزائر على التكيف مع الوضع الذي أفرزته الثورات العربية، بحيث نجح في خلق الاستثناء الجزائري، وإعادة إنتاج نفس النظام بأساليب جديدة من خلال إطلاق موجة من الإصلاحات السياسية بدأت في أبريل/نيسان 2011 وانتهت بتعديل الدستور في فبراير/شباط 2016. لكن هذه الإصلاحات أثبتت محدوديتها على ضوء الاستحقاقات الانتخابية التي نظمت في سنة 2012، ثم في الانتخابات الرئاسية في سنة 2014، واستمرار الرئيس بوتفليقة لعهدة رابعة. استحقاقات انتخابية شهدت تناقص نسبة المشاركة، وعزوف المواطنين عن الانتخابات في مشهد يعبّر بوضوح عن درجة اليأس من العملية السياسية ككل لدى الأوساط الشعبية. وقد أدى هذا الأمر إلى ديمومة أزمة الشرعية، وأزمة المشاركة مما أثر سلبا على المجالس المحلية والتشريعية، وجعل الحكومة تعيش نوعا من التخبط من خلال اتخاذ قرارات ثم تتراجع عنها بفعل الاحتجاجات الشعبية.
ولهذا، فإن مستقبل الوضع السياسي في الجزائر سيتضح بصورة جلية على ضوء نتائج الانتخابات التشريعية والمحلية التي ستنظم ما بين ربيع وخريف سنة 2017. هذه الانتخابات التي من المنتظر أن تحافظ فيها جبهة التحرير الوطني على ريادتها متبوعة بالتجمع الوطني الديمقراطي باعتبارهما يشكلان حزبا السلطة، ويتمتعان بالدعم الكامل من أجهزة الدولة لاسيما الرئاسية والأمنية والبيروقراطية.
بعد ذلك، ستتجه أجنحة السلطة للفصل في مسألة الرئاسيات المقبلة سنة 2019، وهنا سيبرز جناحان: الأول هو جناح الرئاسة وقيادة جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي وبعض رجال المال وجزء من قيادة الجيش، بحيث سيدعو لاستمرار الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة والتحايل على الدستور بحجة أن العهدة الرابعة ستعتبر عهدة أولى في ظل الدستور الجديد لسنة 2016، فإن لم يستطع هذا الجناح تمرير العهدة الخامسة فإنه سيلجأ إلى اقتراح أحدى الشخصيات المقربة من محيط الرئاسة. أما الجناح الثاني الذي سيرفض بقاء بوتفليقة ومحيطه القريب في الحكم، فأبرز رموزه موجودين في الخفاء. وهو يتمثل في الجزء الثاني من قيادة الجيش ولاسيما داخل جهاز الاستخبارات، وجزء من جبهة التحرير الوطني ومجموعة أخرى من رجال المال المرتبطة بالجناح الثاني داخل السلطة. يضاف إليهم حزب طلائع الحريات الذي يقوده رئيس الحكومة السابق علي بن فليس، والذي أصبح يشكل قطبا معارضا وخزانا للكفاءات والكوادر، بحكم أن أبرز قيادييه تولوا مناصب وزارية ودبلوماسية وأمنية وإدارية سابقا مما جعله يطرح نفسه كبديل للسلطة الحاكمة حاليا.
وبالتالي، فإن المشهد السياسي في الجزائر مقبل على تفاعلات معقدة وحراك جديد داخل أجنحة السلطة في محاولة لإعادة ترتيب موازين القوى بين الأجنحة الثلاثة المكونة للنظام السياسي الجزائري، وهي المتمثلة في الرئاسة، وقيادة الأركان، وقيادة الاستخبارات. كما أن الأوضاع السياسية في الجزائر مستقبلا سوف لن يتم الحسم فيها بعيدا عن التنافس بين القوى الدولية الكبرى على مناطق النفوذ لاسيما بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وستتأثر في جانب منها بما يحدث في المنطقة العربية من حروب وفوضى.
هكذا يبدو المشهد في الجزائر معقدا ولا يبعث على التفاؤل، جزائر أراد لها الرئيس الراحل هواري بومدين أن تكون "دولة قوية لا تزول بزوال الرجال والحكومات". رحمك الله يا بومدين، فقد كنت زعيما قوميا، ومناضلا ثوريا، وقائدا للأمة، ورئيسا للدولة. سنبقى دائما نذكرك ونحيي ذكراك جيلا بعد جيل، فإن نسوك رفاقك في السلطة الذين كنت أنت ولي نعمتهم فنحن لن ننساك أبدا يا بومدين.