فرنسا والجزائر.. بين ضريبة التاريخ وحتمية التّعاون
مع كل مناسبة ثورية، يتجدد النقاش حول امتناع فرنسا عن الاعتراف بجرائمها في الجزائر، حيث تحاول الهيئات الوطنية والفعاليات الثورية، دعوة فرنسا بهذا الاعتراف، وتقديم تعويض معنوي ومادي لضحايا الإبادة الفرنسية، بالإضافة إلى استعادة الأرشيف المحتكر من قبل النخبة الفرنسية، والتخلص من الاتفاقيات الثنائية التي كبلت الجزائر لعقود من الزمن بعد الاستقلال.
ولا تنكر الأوساط السياسية في الجزائر وجود مشاريع لاتفاقيات استراتيجية بين فرنسا والجزائر، اتفاقيات ثنائية تعطي لفرنسا الكثير من الامتيازات مقارنة ببقية دول الاتحاد الأوروبي وكذلك دول العالم، وسنفتح في هذا التقرير ملفات حول مجالات التعاون، وماهي العوامل التي أدت لوجود مثل هذا التعامل الحصري بين جلاد الأمس وضحيته؟
اتفاقيات إيفيان.. انتصار في المعركة وخسارة للمستقبل
تعتبر اتفاقيات إيفيان في تاريخ الجزائر الحديث، إحدى المعاهدات السياسية التي حررت البلد من الاستعمار الفرنسي، وتقدم في المنهاج التعليمي باعتبارها انتصارًا لجبهة التحرير الوطني على المستعمر الفرنسي من خلال إرغامه على التوقيع على بنود الاتفاقية، بعد عمل مسلح دام سبع سنوات قاده جيش التحرير الوطني، دفع فيه الجزائريون مليون ونصف الميون شهيد كما جاء في وثائق الثورة (1954 – 1962).
لكن المتأمل في الاتفاقيات يدرك جيدًا أن المستعمر الفرنسي، قدم شروطًا وبنودًا للتعاون مقابل الاعتراف باستقلال الجزائر، وتبرز هذه الملاحظة الأولى عبر صياغة تقرير المصير في الأول من يوليو/تموز 1962، «هل تريد أن تصبح الجزائر دولة مستقلة متعاونة مع فرنسا حسب الشروط المقررة في تصريحات 19 مارس/آذار 1962؟»، وهي الشروط التي لم يطلع عليها أغلب الجزائريين في ذلك الوقت.
ويقول المؤرخ الفرنسي جون مونسرون، إن هذه الاتفاقية التي صوت عليها البرلمان الفرنسي بالأغلبية في الثامن من أبريل/نيسان 1962، لم تحترم الجزائر بنودها بعد سنوات من ذلك، بخاصة مع انقلاب الرئيسين أحمد بن بلة وهواري بومدين على الحكومة المؤقتة واستحواذهم على الحكم، بالإضافة إلى مراجعة الجزائريين للاتفاقية بشكل أحادي، بخاصة ما تعلق باستغلال المحروقات من قبل الشركات الفرنسية، استخدام المطارات والمنشآت العسكرية لصالح فرنسا كميناء المرسى الكبير بوهران وقواعد عسكرية أخرى بالتراب الجزائري.
وتتلخص بنود الاتفاقيات في نقاط معينة كحماية الفرنسيين بعد الاستقلال، وأثناء الهدنة الموقعة بين الجيش الفرنسي وجيش التحرير، بالإضافة الى حماية ممتلكاتهم ومكتسباتهم المادية، ولعل أخطر البنود هو التعاون الاقتصادي والثقافي والعسكري الأمني في الجزائر بعد الاستقلال مباشرة من خلال إعلان مبدأ التعاون من أجل استثمار ثروات باطن الأرض بالصحراء، والسماح للفرنسيين والشركات الفرنسية باستغلال الثروات والممتلكات والأراضي الجزائرية كغيرهم من الجزائريين، وعدم تطبيق أي ضريبة مالية على نشاطهم الصناعي والتجاري والفلاحي. بالإضافة إلى امتيازات التعديل والنقل الجديدة ضمن بند الضمانات المستقبلية مقابل تعهد فرنسا بوضع حدود إمكانياتها تحت تصرف الجزائر لمساعدتها في التطوير العلمي والتدريب والتكوين والتعاون الثقافي والفني.
الثقافة الفرنسية والتمدد الاستعماري
لعب التاريخ الاستعماري لفرنسا عاملا رئيسيًا في خلق صراع الثقافة والأيديولوجية في الجزائر بعد الاستقلال مباشرة، ولعل بروز طبقة من المثقفين اليساريين واستحواذهم على التيار السياسي النخبوي أثره في امتداد الصراع الداخلي إبان الثورة إلى ما بعد الاستقلال في بناء الدولة، وهو ما نتج عنه مؤتمر طرابلس عام 1963 الذي حدد التوجه السياسي والثقافي للدولة الجديدة في الجزائر، وتهميش لرموز جمعية العلماء المسلمين خاصة الإمام البشير الإبراهيمي.
وعملت فرنسا على ألا تغادر الجزائر، من دون بديل اجتماعي واقتصادي وثقافي ناعم، له من القدرات الواسعة في التأثير على الجزائريين، يقول المؤرخ الفرنسي دي توكفيل «بعد أن ارتكبنا عنف الغزو الكبير، أرى أنه يتعين علينا ألا نتراجع عن أعمال العنف الصغيرة التي هي ضرورة مطلقة لتوطيد حكمنا»، وهو يقصد بذلك أعمالًا استعمارية في الثقافة وكسر الهوية والصناعة والتكنولوجيا والامتداد الاجتماعي داخل مجتمعات المستعمرات السابقة.
وسوقت الثقافة الفرنسية المقاومة الجزائرية بأنها سلوك معادٍ للتقدم والحضارة التي قدمتها فرنسا لبلاد شمال إفريقيا، وكذلك بالنسبة إلى الفتح الإسلامي العربي باعتباره غزوًا بقوة السيف من أجل إجبار سكان الشمال الإفريقي على اعتناق الإسلام، واعتبار الخلافة العثمانية احتلالًا من التركمان للمنطقة، ولقياس تأثير هذه الثقافة، تجد عددًا من المثقفين الفراكفونيين من الجزائريين يتبنون هذا الطرح أمثال كمال داوود الذي وصف المعربين بـ«الدواعش»، وعدد من هؤلاء المثقفين يقطنون التراب الفرنسي كتبوا مجموعة من المقالات في اتجاه التمكين لمناهج الجيل الثاني «أنقذوا المدرسة الجزائرية من الاختطاف».
ويقوم النظام الثقافي الفرنسي من خلال برامجه المطروحة بموقع الدبلوماسية الفرنسية، على نشر التعليم الفرنسي بالمنطقة الفرانكفونية والمستعمرات القديمة، وتشجيع التحدث باللغة الفرنسية والتمكين لها، كما تسعى الحكومة الفرنسية جاهدة للتحكم في قطاعات التعليم والتربية والثقافة لأجل صياغة مناهج وبرامج تعليمية تخدم درب التقدم الذي تروج له منذ القرن الماضي. ويغلب على الجزائر ودول المغرب العربي التعليم الجامعي والعلمي في الأطوار الأولى باللغة التقنية الفرنسية، حتى أن وزراء التربية والتعليم في هذه الدول الثلاث (تونس، الجزائر والمغرب) باشروا تعديلات على المنهاج عن طريق الخبراء الفرنسيين، في صورة الحادثة التي هزت قطاع التربية والتعليم الجزائري منتصف هذا العام.
التعاون الاقتصادي.. الورقة الصعبة في يد الإليزيه
يعتبر التعاون الاقتصادي لفرنسا في الجزائر ورقة ضغط وغير مسموح التفريط فيها، فالجزائريون يطلقون مثالًا ساخرًا على حجم الاستثمارات الفرنسية في بلادهم بالنظر إلى امتلاكها لكل شيء «الجزائر لديها الجبال والبحار والغابات والرمال والواحات والصحراء والزراعة والفلاحة والنفط والغاز والذهب والحديد واليورانيوم وكل المعادن النفيسة، وفرنسا لديها الجزائر» وهي إشارة واضحة لمعاناة البسطاء من الهيمنة التي تفرضها فرنسا تجاه الحكومة الجزائرية؛ فيما يتعلق بالصفقات الاقتصادية والتجارية.
وتعيش فرنسا قلقًا تجاه المد الصيني في قطاعي الصناعة والتجارة، حيث حققت الصين أكثر من ثمانية مليارات دولار، كواردات من الجزائر نهاية عام 2015 حسب أرقام من الجمارك الجزائرية، لكن السفير الفرنسي بالجزائر بيرنار إيمي، نفى أن يكون هذا الامتداد على حساب الحضور الاقتصادي والثقافي الفرنسي، مطمئنًا رجال الصحافة والإعلام في لقاء صحفي حول تطور العلاقات الفرنسية الجزائرية في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، مشيرًا إلى أن عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين فاقت 420 ألف تأشيرة عام 2015 في حين لم تتجاوز عام 2014 رقم 330 ألف تأشيرة.
وأعلنت الجزائر وفرنسا في 19 ديسمبر/كانون الأول 2012، عن مبادرة الصداقة والتعاون الفرنسي الجزائري، ورافق الإعلان وفد واسع الإطارات والمسؤولين الساميين في الدولة الفرنسية بقيادة فرانسوا أولاند، وصرح حينها الرئيس الفرنسي مادحًا الرئيس الجزائري بوتفليقة «العلاقات الفرنسية الجزائرية ومنذ 1962، لم تعرف التطور المثالي الذي توجد عليه الآن».
وجمع منتدى المؤسسات الذي يرأسه رجال الأعمال المعروف علي حداد اجتماعا ثنائيا في مدينة وهران لدراسة تحويل رقم أعمال يقدر بـ420 مليار دولار للاستثمار في الجزائر من قبل المؤسسات الفرنسية، وتحاول الحكومة الفرنسية تقديم امتياز خاص بالفرنسيين منذ عام 2000 في محاولة منها للخروج من العزلة التي رافقت العشرية السوداء، وكذلك بضغط من لوبيات المال والأعمال المرتبطة أساسًا بفرنسا. كما يتواجد في فرنسا وحدها أكثر من 400 ألف تاجر ورجل أعمال ناشط في التراب الفرنسي أصولهم جزائرية.
وشككت جريدة النهار الجزائرية في الاستثمارات الفرنسية، ووصفت هذا الادعاء بالأكذوبة التي يراد لها عقد صفقات خيالية للاستيلاء على جيوب الجزائريين وتحويل البلاد إلى سوق استهلاكية غير منتجة، وبالأرقام تقول الصحافية إن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أعلن عن أن الاستثمارات الفرنسية في الجزائر أقل من واحد مليون دولار نهاية 2014، رغم التبادل التجاري القوي بين البلدين وهو السلوك الذي يصب في صالح فرنسا كبلد منتج والجزائر كبلد مستهلك.
وبحسب الخبراء الاقتصاديين كوزير التخطيط والاستشراف الأسبق بشير مصطفى، لعبت قوانين الاستثمارات الأجنبية دورًا فاعلًا في تقليص حجم الاستثمارات الفرنسية في الجزائر حيث انخفضت من قرابة 9 مليار دولار إلى أقل من مليون دولار في غضون عام واحد وهو 2012، حيث سحبت الشركات الفرنسية عددًا كبيرًا من المشاريع لغموض غير مبرر تجاه الوضع القانوني للشركات الأجنبية في الجزائر.
ولا يزال هذا الإجراء غامضًا لدى بعض دوائر صناع القرار، خاصة مع انخفاض أسعار النفط ودخول البلد في أزمة تقشف اقتصادي مالي ينذر بالخطر مستقبلًا.
*إبراهيم الهواري، صحفي وباحث في الشؤون المغاربية والإفريقية. - "ساسة بوست"