فلسفة النهب الأمريكي والذهب السوري مثالا

09.03.2019

ما يزيد عن 40 طنّاً من الذهب صادرته طائرات عسكرية أميركية بعد مفاوضات مع تنظيم داعش على حياة أفراده، ولم تترك إلاّ القليل للتنظيمات الكردية المسلحة التي تقاتل التنظيم المتطرّف.

الحدث، وإن بدا عند البعض قليل الأهمية أمام حجم الأحداث المتتالية، إلاّ أنه يعكس حقيقة الرؤيا وطبيعة الأهداف ونوع الآليات التي تعتمدها الولايات المتحدة في نهب خيرات الشعوب وتخريب اقتصاداتها تحت شعارات مكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية وتعزيز السلام والأمن الدوليين.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع الأطروحات اليسارية، ظهرت مقولات "نهاية التاريخ" عند فوكوياما أي نهاية الفلسفة، وانتفاء التنوّع البشري ثقافياً، وانتصار السرديات الغربية الكبرى القائمة على التفوّق الغربي في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلوم، وبلوغه المستوى الذي يتيح له نقل نموذجه الحضاري لبقية الشعوب التي عليها أن تتخلّى عن ثقافاتها البائدة أمام نجاعة العولمة ونموذجها الرأسمالي في تحرير الأسواق العالمية.

ومع مقولة "نهاية التاريخ"، كان لا بدّ من القول بضرورة "صِدام الحضارات" لصموئيل هنتغتون والتصادم بين الثقافات الشرقية والثقافة الغربية المنتصرة. فعند هؤلاء انتصرت الرأسمالية باعتبارها النموذج الأمثل للمجتمعات البشرية التي تنزع نحو الرفاهية في ظل ندرة الموارد الطبيعية. وبالتالي لا يستحق العيش إلا مَن كان أهلاً لذلك. فترتيب العالم عبر التدخّل في أزماته وخلق أنماط جديدة في الإنتاج والاستهلاك والقِيَم هو السبيل لبلوغ الحضارة البشرية أوجها.

في كتابها "الولايات المتحدة الأميركية والعالم" ترى "مايا كاندل" من معهد الدراسات السياسية في باريس أن التطهير العرقي للهنود في القارة الأميركية وتقنين العبودية وتعزيزها في المجتمعات الجديدة، حدّدا الأطر للرؤية التي تنظر من خلالها السياسيات الأميركية المتعاقبة للعالم. فقد درجت الهيمنة الأميركية على رفض ضمّ البلدان الجديدة الخاضعة لسيطرتها على غرار ما كانت تفعله فرنسا مثلاً، خوفاً من أن يترتّب على هذا الضمّ أن يصبح مواطنو البقاع المستعمرة الجديدة مواطنين أميركيين متساوي الحقوق مع غيرهم. بهذه الرؤية تمكّنت الإمبريالية الأميركية، من نهب خيرات الشعوب المضطهدة والتحكّم بها عن بعد من دون أن تتحمّل تكاليف هذا الاحتلال.

ومع انفراد الولايات المتحدة بالسيطرة العالمية، تطوّرت آليات السيطرة والهيمنة الأميركية في إخضاع الشعوب ونهب خيراتها وإعادة تشكيل نُظمها السياسية والاقتصادية بما يخدم شركات الإنتاج الضخمة العابِرة للحدود والهويات مثل شركات النفط والسلاح.

وهكذا باسم الحرية والديمقراطية والانتصار لحقوق الإنسان ودعم التحرّر، جابت الولايات المتحدة الأميركية العالم ونشرت قواعدها العسكرية براً وبحراً وجواً، واستغلّت المؤسّسات الدولية للسيطرة والهيمنة على اقتصاديات الشعوب عبر وصفات اقتصادية زادت مديونيات الدول الفقيرة، ولم تحقّق لها نمواً اقتصادياً، وارتفعت معها أعداد الفقراء والمعوزين.

ولا تدلّ حادثة واحدة على أن التدخّل الأميركي جاء لصالح الشعارات التي تطرحها مُطلقاً. العراق مثال على ذلك. الحاكم الأميركي للعراق "بول بريمر" كانت من أولى قراراته التي أصدرها فور وصوله بغداد خصخصة مؤسّسات الدولة العراقية.  هذه الخصخصة ضمنت امتلاك الأجانب لمفاصل الاقتصاد العراقي بما فيها النفط ومشاريع إعادة بناء البنية التحتية. وأغلب الشركات التي تملّكت الموارد كانت أميركية أو مُقرّبة من دوائر صنع القرار في واشنطن، ولم يترك للشركات العراقية أكثر من 2% من تلك المشاريع.

تكتشف نعومي كلاين في كتابها "عقيده الصدمة وكارثه الصعود الرأسمالي" ارتباطات شديدة بين الحروب والكوارث والأوبئة والسياسة الاقتصادية. حيث تسمّي تلك العلاقة بـ"رأسمالية الكوارث" وهي وصفات سريعة تحدث تحوّلات عميقة ثقافية واقتصادية في بينة المجتمعات ما بعد الصدمة أو الكارثة، حيث تكون الشعوب تترنّح تحت تأثير الصدمة ما يجعلها تتقبّل أية حلول مطروحة مهما كانت مؤلمة طالما أنها قد تحفظ لها استقرارها الاجتماعي. ورأسمالية الكوارث لم تبدأ بأحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 حيث غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، بل تعود أصولها إلى 50 سنة للوراء أي إلى جامعة شيكاغو مع الحائز على جائز نوبل في الاقتصاد ميلتون فريدمان الذي ترك أثراً شديداً على صناّع القرار في واشنطن عبر توصياته الاقتصادية التي كانت تنزع نحو إعادة تشكيل جذري لنمط العلاقات داخل المجتمعات المنكوبة على غرار ما تفعله الأيديولوجيات الأصولية.

تمضي كلاين في الربط بين السياسات الاقتصادية والصدمات والكوارث وتجارب سرّية موّلتها الاستخبارات الأميركية لدراسة مدى تأثير الصدمات الكهربائية والتعذيب الممنهج على التحكّم في عقول الضحايا. وقد استفادت الولايات المتحدة من هذه التجارب في التعامل مع سجنائها في سجنيّ غوانتانامو وأبو غريب وغيرهما.

وهذه النظرة الأميركية للعالم باعثها أمران:

الأول هو شكل النظام الرأسمالي الإمبريالي القائم على تراكم رأس المال واعتماد سياسة الإفقار الممنهجة للشعوب المغلوبة. فمن طبيعة هذا النظام التوسّع الدائم والهيمنة الدؤوبة وتحويل المجتمعات المنتجة إلى مجتمعات مُستهلِكة وقد سبق لماركس وصديقه أنجلز أن وصفا البرجوازية بـ"المطاردات فوق سطح الكرة الأرضية، يجب أن تسكن في كل مكان، وتستقرّ في كل مكان، وتؤسّس الروابط في كل مكان".

والثاني هو النظرة المستقرّة للغرب في تعامله مع شعوب العالم الثالث، وهي نظرة لا تذهب بعيداً عن منطق "السلعة". ففي كتابه "الهوية والحركة الإسلامية" يقول عبد الوهاب المسيري: "لا ينظر لنا الغرب باعتبارنا كياناً مستقلاً لنا طموحاتنا المشروعة وأهدافنا المختلفة، إنما على أننا مادة استعمالية لا بد من تنميطها حتى تدخل قفص الإنتاج والاستهلاك، من دون هدف أو غاية سوى المنفعة واللذّة، فإن طرحنا أهدافاً أخرى مثل التمسّك بالأرض والدفاع عن العزّة والكرامة ورفض التنافس بوصفها نقطة مرجعية، فإنه يخفق في تصنيفنا وينظر لنا باعتبارنا مخلوقات مُتعصّبة لا عقلانية".