أدوات إقليمية متجدّدة للّزوم «الشرق الأوسط الكبير»!!
تعاود السياسة الأميركية من جديد استعمال المنطقة الإسلامية في وجه منافسيها الأوّليين والإقليميين، إنّما بحلّة جديدة.
«الشرق الأوسط» كان اللبوس الذي اخترعه ماهان الأميركي في 1902، للدلالة على المنطقة الإسلامية التي كانت خاضعة للعثمانيين، فاستفاد منها البريطانيون في تقسيم المنطقة على أساس معاهدة سايكس بيكو. لكن محاولات هتلر للإمساك بها فشلت في الحرب الثانية، فكان الأميركيون الصاعدون بعد 1945، القوة الأساسية التي طوّعت «الشرق الأوسط»، ونجحت بواسطته في القضاء على الصعود الروسي في 1989.
لذلك يطرح مركز القرار الأميركي الجديد المحيط بترامب فكرة «ناتو شرق أوسطي» له مهمّتان: إعادة «تجذير» النفوذ الأميركي في المنطقة الاستهلاكية الأكبر في العالم، وهي «الشرق الأوسط وإلغاء القضية الفلسطينية. وهذا لا يكون إلا بوقف التمدّد الروسي وإعادة إيران إلى حدودها ولجم التدحرج الصيني، مع تقنين حركة التجارة بين هذه المنطقة وكلّ من أوروبا واليابان.
أمّا الفريق الترامبي الذي توصّل إلى هذا المشروع مستمدّاً فكرته من وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس، التي كانت أوّل من تحدّث عن «شرق أوسط كبير» أثناء العدوان «الإسرائيلي» على لبنان في 2006. هذا الفريق الذي يطلقون عليه في واشنطن لقب «محور البالغين»، ويتألّف من وزير الدفاع جيم ماتيس، والخارجية ريكس تيلرسون، والأمن الوطني هربرت ماكماستر، ومدير الاستخبارات مايك بومبيو، والسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، ونائب ترامب مايك بنس، وصهر الرئيس جاريد كوشنر اليهودي ، وأصدقائه من وول ستريت غاري كوهين ودينا حبيب باول.
ميزة هذا المحور أنّه يتعامل مع عشرات مراكز الأبحاث المتمكّنة، رابطاً بين مجموعة عسكرية استراتيجية وفريق أكاديمي متخصّص، وخبراء في الاقتصادات الأميركية والعالمية.
لقد ارتأى هذا الفريق أنّ استعمال «الشرق الأوسط الكبير» في سبيل الأهداف المذكورة، ليس إلا تتمّة للاستعمال الأميركي التاريخي «للشرق الأوسط» التقليدي في وجه النفوذ الروسي.
وجرى استعمال الإسلام كدين في وجه الإلحاد الماركسي، واستتباعاً الروسي، ليُؤلّب المنطقة الإسلامية بكاملها على «الاتحاد السوفياتي الكافر». وبدلاً من «الإلحاد الروسي»، تعتمد الدعاية الأميركية السعودية المشتركة على تكفير إيران لـ«شيعيّتها»، وروسيا لأرثوذكسيّتها المسيحية، والصين لأنّها نجحت في حجب ماركسيتها بالانتشار الاقتصادي.
لا بأس هنا من الإشارة إلى أنّ مصطلح «الشرق الأوسط» ليس تاريخياً ولا يعبّر عن حقيقة سياسية، بدليل أنّه بعد عقد على إطلاقه لا يوجد مواطن يقول إنّه «شرق أوسطي»، ولا يقدّم أحد الأحداث التاريخية في منطقتنا على أساس شرق أوسطيّتها، بل استناداً إلى عثمانيتها وانتمائها إلى دول عربية إسلامية قديمة أو إلى الممالك التي كانت منتشرة قبل الإسلام في سورية والعراق.
لذلك، فإنّ هذا المصطلح هو تسمية أطلقها الأميركي «ماهان» في 1902، فتلقّفها البريطانيون الذين قالوا إنّها تضمّ المشرق العربي والمناطق الإسلامية المحيطة في تركيا ولاحقاً باكستان، وقسّموها بموجب معاهدة سايكس بيكو 1916 إلى دول وأمم.
والطرف الذي استفاد منها بعد 1945 هي السياسة الأميركية التي بنت عليها حركتها العالمية وهزمت الاتحاد السوفياتي ومشروع الرئيس الراحل عبد الناصر، وسمحت بتطوّر القوة «الإسرائيلية»… وفرضت على الفرنسيين والبريطانيين التحوّل قوى من التاريخ تأتمر بتعليمات المرشد الأميركي.
يتبيّن بالاستنتاج، أنّ إدارة ترامب تعمل بدورها على تبنّي مشروع كونداليزا رايس على أساس أنّ «الشرق الأوسط الكبير» يضمّ «الشرق الأوسط» التقليدي مع باكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى، متوغّلاً من السودان إلى القرن الأفريقي، وله نفوذ في ما تبقّى من العالم الإسلامي في شمال أفريقيا وأندونيسيا وبروناي وأوروبا والأميركيّتين وأستراليا، فيصبح بذلك «الشرق الأوسط الكبير»، أيّ الأداة المطلوبة للسيطرة على حركة الاستهلاك في العالم ووضع حدّ لروسيا والصين وإيران.
ولتحقيق هذه الأهداف، يتوجّب على واشنطن تأسيس أدوات سياسية وعسكرية تجمع بين دول هذه المنطقة برباط فعلي يؤدّي دوراً مستداماً جامعاً بينها وبين المؤسسات التقليدية العاملة حالياً، من جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة الدول الأفريقية والمراكز الدينية المختلفة… على أن يكون لهذا الحلف الجديد «ناتو خاص به»، عسكري يستطيع التعامل مع الأحداث المستجدّة داخل دول الحلف أو على مستوى الإقليم، وهكذا يُصاب التطور الداخلي العربي والإسلامي بشلل من سياسة أميركية متعمّدة.
لقد لاحظ «محور البالغين» الأميركي أنّ هناك استحالة لتحقيق مشروعه «الشرق أوسطي» من دون إحداث ربط شديد بين دول أربع تشكّل عصب هذه المنطقة، وهي السعودية ومصر و«إسرائيل» وتركيا… لكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين إلى إرجاء التفاهم مع أنقرة، لأنّها على تناقض مع السياستَين المصرية والسعودية، بسبب تأييدها للإخوان المسلمين من جهة، ومشروعها الخاص التوسّعي ذي البعد العثماني من جهةٍ ثانية. واعتبروا أنّ تحقيق تفاهم مصري سعودي إسرائيلي من شأنه فرض موافقة تركية لاحقة.
لكنّهم اكتشفوا أنّ هذا التفاهم الثلاثي صعب من دون تحقيق حلّ للقضية الفلسطينية، يؤدّي إلى إلغائها نهائياً. فواشنطن على علم أنّ هناك سلطة فلسطينية «وهمية» تقبل بأيّ حلّ للخروج من أزمتها، وهناك عالم عربي متهالك يريد الانتهاء من «أوزار فلسطين» بأيّ ثمن كان، إلى جانب عالم إسلامي أصبح بفعل الجهود الأميركية السعودية أقرب إلى «إسرائيل» من القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى دول تاريخية كبيرة اعترفت حديثاً بـ«إسرائيل»، كالهند التي ردّت على منتقديها بأنّ دولاً عربية كبيرة والسلطة الفلسطينية اعترفت بـ«إسرائيل» «قبلنا»، فلا تلومونا.
لمجمل هذه العوامل، يجري التحضير لثلاث زيارات متتابعة يُنتظر أن يقوم بها الرئيس ترامب إلى كلّ من السعودية ومصر، على أن تُختتم بزيارة إلى «إسرائيل» التي ستشهد لقاءً ثلاثياً بين ترامب ورئيس الكيان الإسرائيلي نتنياهو ومحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية.
المتوقّع من هذا اللقاء، إعلان بدء التحضير «لحلّ مزعوم» على أساس دولتين، لكنّ الحقيقة أنّ الدويلة الفلسطينية لن تكون إلا على قسم من أراضي الضفة الغربية وغزة، منزوعة السلاح ومرتبطة بـ«إسرائيل» على المستوى الأمني والاقتصادي… والسياسي فقط. فماذا يبقى من عمل للفلسطينيين سوى حضور المؤتمرات وتغطية السلع «الإسرائيلية» المتوغّلة في قلب العالمين الإسلامي والعربي بنظام العمولة!
هناك إذاً إصرار أميركي على ناتو شرق أوسطي يشكّل «البندقية الأميركية» في «الشرق الأوسط الكبير». أمّا «الناتو الغربي الأطلسي الأكبر»، فموعد انعقاده في الخامس والعشرين من أيار المقبل، وقد تكون قراراته مباغتة لناحية تبنّيها «الناتو الإسلامي» الذي لن يكون إلا فصيلاً من فصائلها، لأنّ مجرّد إعلان حلّ الدولتين في فلسطين التاريخية يعني تشكيل قوة عسكرية سياسية من مصر والسعودية و«إسرائيل»، ينتظر أن تلحق بهم تركيا لمجابهة إيران ولجم روسيا.. هل بإمكان فريق ترامب أن ينجح في مشروعه؟
إنّ الحلف الروسي الإيراني السوري الذي قد يمتدّ ليشمل العراق والصين ودول بريكس والجزائر، ليس ضعيفاً، ولديه إمكاناته القادرة على احتواء المشروع الأميركي. وها هي واشنطن تقتفي اليوم حركة روسيا، فتتّهمها بتسليح طالبان في أفغانستان، ودعم بوليفيا وفنزويلا والتحرّك نحو اليمن والجزائر… وتحريك مؤيّديها في أوروبا الشرقية مع محاولات التأثير على الرأي العام في أوروبا الغربية. فموسكو تعرف أنّ «شرقاً أوسط كبيراً» حتى آسيا الوسطى، إنّما يستهدف حصارها أيضاً بشكل مباشر عند حدودها السياسية من قرغيستان وأفغانستان ومجمل دول بحر قزوين.
ولإيران من جهتها علاقات قومية ودينية وسياسية مع كثير من شعوب آسيا الوسطى وباكستان والهند والمشرق العربي. لذلك فإنّ عملية اختزالها ضمن حدودها، مسألة شديدة الصعوبة وتتناقض مع المنطق التاريخي الذي لا يرى في بلاد فارس إلا دولة إقليمية تطمح إلى أداء دور عالمي.
وهكذا، يذهب ترامب إلى الحرب في «الشرق الأوسط»، إنما بعقلية «البزنس مان»، رجل الأعمال الذي لا علاقة له بالقيم، فيبيع ويشتري حسب لغة الأرباح ومن يدفع أكثر… فقد يلحظ وجود مكاسب في جهة أخرى، فلن يتورّع عندها من ترك «الناتو الإسلامي» إلى ناتو آخر أكثر مردودية.
بانتظار جولة ترامب «الشرق أوسطية»، تبقى كبيرة المراهنة على رفض الفلسطينيين لمشروع تدمير قضيّتهم المحقة، إلى جانب إصرار روسي إيراني على إعادة الاعتبار للقانون الدولي وشلّ حركة الكاوبوي الأميركي في صحاري «الشرق الأوسط» وفيافيه.