إعادة التموضع الأمريكي في الشرق الأوسط على وقع أزمة اقتصادية عميقة

25.12.2018

نتيجة المغامرات غير المحسوبة لأمريكا وحلفائها الغربيين، وما أدت إليه من تدمير لإنجازات الشعوب والإجرام بحقها. نشأت أزمة اقتصادية عميقة يحاول الإعلام الغربي جاهداَ أن يتستر عليها ولكنها موجودة وهي الناظم الأوحد لكل الحراك السياسي الاقتصادي الذي جرى منذ عامين وحتى الآن على ساحة أوروبا وأمريكا.

اليوم الاقتصاد العالمي على مفترق طرق، إما الاستمرار بالنمط السياسي السائد وبالتالي الوصول إلى حد الانهيار كمنظومة سياسية اقتصادية وإما التغيير- بالنمط الداخلي أو تغيير خارجي يكون بإعادة رسم الخارطة العالمية بما يتوافق مع الحقائق السياسية الراهنة وبالتالي انهاء الحروب.

ترامب حاول أن يعمل توليفة إعادة تموضع اقتصادي مع السعي لإنجاز تسويات متعددة شملت كوريا الشمالية شن "حرب تجارية" على الصين للحد من العجز في الميزان التجاري وإعادة الاستثمارات إلى أمريكا التي بدأت رؤوس الأموال والشركات تهرب منها إلى الصين بسبب ارتفاع معدلات النمو فيها. وأعاد الاتفاق مع كندا والمكسيك –نافتا- أيضاَ فرض رسوم جمركية على واردات أوروبا من الألمنيوم والحديد الصلب إلى الولايات المتحدة 

فرنسا تمر بأزمة سببها ارتفاع أسعار الوقود وارتفاع تكاليف المعيشة ما يؤدي إلى استنزاف الطبقتين العاملة والوسطى وتقوي الطبقة الغنية. ويرى المتظاهرون ممثلين بحركة السترات الصفر أن الحكومة رفعت ضريبة الوقود لتمويل العجز الذي قد ينتج عن التخفيضات الضريبية للشركات الكبرى.

الأمر في بريطانيا أخطر، وهي التي نظرتها للاتحاد الأوروبي مختلفة عن فرنسا، منذ البداية ليسوا مؤمنين به، والرأي العام داخل المملكة المتحدة منقسم حوله وبمجرد ارتفاع مستوى المعيشة دعوا إلى الخروج منه وبريطانيا تاريخياَ تابعة ثقافياَ لأمريكا وهم يعتقدون أنهم سيضيعون أمام فرنسا وألمانيا أكبر اقتصاد أوروبي إن لم نقل إن ألمانيا تشكل قاطرة أوروبا. المرحلة حرجة وتحتاج لساسة كبار لكن رئيسة الوزراء تيريزا ماي تظهر كمراهقة تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي بل ربطت مستقبلها السياسي بهذا الخروج. وتبدو في طريقها نحو الغرق بعد أن استقال ثلث وزرائها.

بالعودة إلى أمريكا بالإضافة لخسارتها في سورية تعاني من ورطة في اليمن فالحرب على اليمن حرب أمريكية بامتياز ليس للسعودية ولا لشعبها أية مصلحة فيها، باب المندب يمثل عصب التجارة الدولية.

في أمريكا السنة المالية تصنف أربع أرباع وفي نهاية كل ربع تصدر تقارير ربعية (كل الشركات والمؤسسات) وعلى أساسها يعيدون تقييم سياساتهم الاقتصادية. الربع الأول لم تكن نتائجه جيدة والثاني شهد بنهايته شبه تحسن بعد أن فرض ترامب التعريفات الجمركية والضرائب على أوروبا و"الحرب التجارية" على الصين. أما الربع الثالث تعزز التحسن ولكن بنهاية الرابع بدأ يعود الركود الاقتصادي وهذا سيكون محفزاَ بل مرغماَ لترامب للمتابعة في مسار التسوية الذي بدأه مع بوتين في قمة هلسنكي تموز الماضي . في الربع الماضي ونتيجة للتحسن في الاقتصاد عرقل ترامب مسار التسويات في سورية (إدلب) وشهد تراجع مع كوريا ورفض مقابلة بوتين في قمة العشرين وأوعز لأوكرانيا للتحرش بالروس مما اضطر بوتين للدفاع عن سيادته في المياه الإقليمية الروسية فقام برد حاسم.

ما من شك أن الفشل العسكري لأمريكا وحلفائها وأدواتها في سورية جعل تكلفة الحرب كبيرة وأرغمها على الانسحاب، ترامب أعلن عن سحب قواته من سورية آخر آذار الماضي وأجبروه على التراجع وشن عدوان على الشعب السوري – وكانت أقوى الانتقادات التي وجهت إليه من داخل أمريكا هي "حتى لو كنت تنوي الانسحاب فيجب أن لا تعلن ذلك وأنت في حالة تفاوض لإنجاز تسوية شاملة". 

اليوم ترامب يعلن سحب جنوده من سوريا قائلاَ في واحدة من تغريداته الكثيرة لكنها الأهم قائلاَ "الجنود الأمريكان يضحون بحياتهم الثمينة وأمريكا تدفع كلفاً طائلة فلماذا نكون شرطي الشرق الأوسط"-  لم يخرج أي انتقاد بالعكس وزير دفاعه المعارض ماتيس أعلن استقالته بعد اعتباره قرار الانسحاب ب"الخطأ الفادح" . ووزارة الخارجية الأمريكية بدأت عملية لإجلاء موظفيها من سورية في غضون 24ساعة. والمتحدثة باسم وزارة الدفاع "البنتاغون " أشارت إلى أن عملية إعادة القوات الأمريكية من سوريا بدأت.

معارضو نتياهو في الكيان الإسرائيلي يعتبرون قرار انسحاب ترامب دون اشتراط أي شيء على الوجود الإيراني في سوريا صفعة لنتياهو . "قسد" صرخوا أن قرار الانسحاب طعنة في الظهر. أما أوروبا التي ترى نفسها حليفاَ لأمريكا فقد شكت من التجاهل وعدم التشاور معها وأبدت امتعاضها من قرار ترامب وأعلنت بريطانيا وفرنسا أنهم غير ملتزمين به ماكرون قال "الحليف يجب أن يكون محل ثقة"  .ووزيرة دفاعه اعتبرته خطأ فادح وألمانيا عبرت عن عدم مشاورتها أما الكرملين فقالوا بأن روسيا تحتاج لمعلومات أكثر والتحركات المقبلة غير واضحة.

ترامب الذي لا يعرف سوى إجراء الصفقات وكيف يحول الربح لجيبه وحده ولو كان ذلك على حساب شركائه ترامب هذا كان وفياَ لكل وعوده الانتخابية قال إن أمريكا متورطة بحروب خارجية تكلفتها باهظة، وهو سينسحب من هذه الحروب، وسينسحب من الاتفاق النووي الإيراني وفعل وحسًن موقع أمريكا في اتفاقية" نافتا" مع كندا والمكسيك اذ أعاد التفاوض عليها في قمة العشرين اليوم ينسحب من سوريا وهذا الانسحاب يشير إلى خطوات على طريق استكمال التسوية التي بدأت في قمة هلسنكي وتشمل اليمن والعراق ولبنان. حدثين حصلا قبيل قرار ترامب قد يدللان على هذه التسوية:

الأول: إعلان دمشق عن تسمية كامل أعضاء اللجنة الدستورية المنبثقة عن اجتماعات أستانة الجولة الحادية عشرة التي ترعاها روسيا وإيران وتركيا والتي قوضت مسار جنيف ومن المفروض أن تعقد هذه اللجنة أول اجتماع لها مع مطلع 2019

الثاني: زيارة الرئيس البشير إلى دمشق والتي لم تكن لتحصل دون موافقة أمريكا 

أمريكا تخرج من سوريا ذليلة مهزومة، بالرغم من كل أساليب الهمجية البربرية التي ارتكبتها عصاباتها الإرهابية المجرمة وبالرغم من كل ماخسرته من أموال طائلة لتدمير إنجازات الشعب السوري وتقسيمه نفسياَ وجغرافياَ. أمريكا لم تترك سوريا لأحد .بل أبناء الشعب العربي السوري العظيم هم من صمدوا وقدموا التضحيات الكبرى حتى خلصوا تراب أرضهم الطاهر من الإرهاب